( الثالثة ) : اختلف العلماء في  رؤية خاتم الأنبياء لربه إله الأرض والسماء في ليلة المعراج   التي هي في حقه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر وأسمى ، فأثبتها حبر الأمة   عبد الله بن عباس     - رضي الله عنهما - ورجحه  النووي  ، وقال : والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء ، الحديث ،   ابن عباس  رضي الله عنهما ، وهذا قول  أنس  وعكرمة  والحسن  والربيع بن   [ ص: 251 ] سليمان  وجماعة من المفسرين ، قال  القرطبي     : قد ثبت ذلك - يعني رؤية الباري جل شأنه - سمعا بقوله تعالى (  وجوه يومئذ ناضرة   إلى ربها ناظرة      ) وإذا جازت في الآخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى الموتى .  
كذا قال ، وقال   القاضي عياض     : رؤية الله تعالى جائزة عقلا ، وتثبت الأخبار الصحيحة المشهورة وقوعها للمؤمنين في الآخرة ، وأما في الدنيا  فقال  مالك     : إنما لم ير سبحانه في الدنيا لأنه باق ، والباقي لا يرى بالفاني ، فإذا كان في الآخرة رزقوا أبصارا باقية فرأوا الباقي بالباقي     .  
قال   القاضي عياض     : وليس في الكلام استحالة الرؤية إلا من حيث القدرة ، فإذا أقدر الله من شاء من عباده عليها لم يمتنع ، وقد وقع في صحيح  مسلم  ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه (  واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا     ) وأخرجه   ابن خزيمة  من حديث  أبي أمامة  ، ومن حديث   عبادة بن الصامت     - رضي الله عنهما - فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلا فقد امتنعت سمعا ، لكن من أثبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يقول : إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه . كذا في الفتح ، قال : وقد اختلف السلف في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه فذهب جماعة إلى إثباتها ، وحكى  عبد الرزاق  عن  معمر  عن  الحسن  أنه حلف أن  محمدا   رأى ربه  ، وجزم   ابن خزيمة  عن   عروة بن الزبير  بإثباتها ، وكان يشتد عليه إذا ذكر له إنكار  عائشة  ، وبه قال سائر أصحاب   ابن عباس     - رضي الله عنهما ، وجزم به   كعب الأحبار   والزهري  وصاحبه  معمر  وآخرون ، وهو قول  الأشعري  وغالب أتباعه ، ثم اختلفوا هل رآه بعينه أو بقلبه ؟ وعن   الإمام أحمد     - رضي الله عنه - كالقولين ، قال  الحافظ ابن حجر  في شرح   البخاري     : جاءت عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - أخبار مطلقة وأخرى مقيدة ، قال : فيجب حمل مطلقها على مقيدها ، ذلك ما أخرجه   النسائي  بسند صحيح وصححه  الحاكم  أيضا من طريق  عكرمة  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما :  أتعجبون أن تكون الخلة  لإبراهيم   ، والكلام  لموسى   والرؤية  لمحمد      .  
وأخرجه   ابن خزيمة  بلفظ : إن الله اصطفى  إبراهيم   بالخلة - الحديث .  
وأخرج   ابن إسحاق  من طريق  عبد الله بن أبي سلمة  ،  أن  ابن   [ ص: 252 ] عمر  أرسل إلى   ابن عباس     - رضي الله عنهم : هل رأى  محمد   ربه ؟ فأرسل إليه أن نعم     . ومنها ما أخرجه  مسلم  من طريق  أبي العالية  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - في قوله تعالى (  ما كذب الفؤاد ما رأى   ولقد رآه نزلة أخرى      ) قال رأى ربه بفؤاده مرتين     . وله من طريق عطاء عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال : رآه بقلبه .  
وأصرح من ذلك ما أخرجه  ابن مردويه  من طريق عطاء  عن   ابن عباس  أيضا قال : لم يره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينه ، إنما رآه بقلبه     .  
وروى   ابن خزيمة  بإسناد قوي عن  أنس     - رضي الله عنه - قال : رأى  محمد   ربه . وعند  مسلم  من حديث  أبي ذر  أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : "  نور أنى أراه     "   وللإمام أحمد  عنه - رضي الله عنه -  قال - صلى الله عليه وسلم : " رأيت نورا     "   ولابن خزيمة  عنه قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه ، وبهذا يتبين مراد  أبي ذر     - رضي الله عنه - بذكر النور ، أي : النور حال ( بينه ) وبين رؤيته له ببصره .  
والحاصل أن في هذه المسألة ثلاث أقوال ، أحدها ثبوت رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه ، وهو قول   ابن عباس  وأتباعه ، وهو ظاهر ما ذهب إليه   الإمام أحمد     - رضي الله عنه ، فقد روى الخلال في كتاب السنة عن  أبي بكر المروذي  قال :  قلت  لأحمد     : إنهم يقولون : إن  عائشة  قالت : من زعم أن  محمدا   رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، فبأي شيء يدفع قولها ؟ قال : بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ربي " ، قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أكبر من قولها     .  
وجنح   ابن خزيمة  في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنب في الاستدلال له بما يطول ذكره ، وحمل ما ورد عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - من قوله إنه إنما رآه بقلبه على أن الرؤيا وقعت مرتين مرة بعينه ومرة بقلبه . 
( الثاني ) : منع ذلك في الدنيا ، وهو قول   عائشة الصديقة بنت الصديق     - رضي الله عنهما - قالت رضي الله عنها :  من زعم أن  محمدا   رأى ربه بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله     .  
وروى  الترمذي  عن   الشعبي  قال :  لقي   ابن عباس     - رضي الله عنهما -  كعبا  بعرفة   فسأله عن شيء ، فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال   ابن عباس     : إنا  بنو هاشم      - وزاد  عبد الرزاق     : نقول إن  محمدا   رأى ربه      [ ص: 253 ] مرتين . فقال  كعب     : إن الله قسم رؤيته وكلمه ، زاد  عبد الرزاق     : بين  موسى   ومحمد   ، فكلم  موسى   مرتين ، ورآه  محمد   مرتين     .  
قال  مسروق     :  فدخلت على  عائشة  فقلت : هل رأى  محمد   ربه ؟ قالت : لقد قف شعري - أي قام من الفزع لما حصل - عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه تعالى واستحالة وقوع ذلك ، ثم قالت له : - أين أنت من ثلاث آيات ؟ من حدثك أن  محمدا   رأى ربه فقد كذب ، وفي لفظ : من زعم أن  محمدا   رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، ثم قرأت (  لا تدركه الأبصار      ) - (  وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب      ) ولكن رأى جبريل في صورته مرتين     .  
وفي صحيح   البخاري  ومسلم  وسنن  الترمذي  أن  مسروقا  قال :  قلت  لعائشة     : يا أمتاه - أصله يا أم والهاء للسكت فأضيف إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء وزيدت هاء السكت بعد الألف - هل رأى  محمد   ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من ثلاث ؟ من حدثكهن فقد كذب ، من حدثك أن  محمدا   رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت الآيتين ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت (  وما تدري نفس ماذا تكسب غدا      ) ومن حدثك أنه كتم شيئا من كتاب الله فقد كذب ثم قرأت (  يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك      ) الآية ، ولكنه رأى  جبريل   عليه السلام في صورته مرتين  ، ووافق  عائشة  رضي الله عنها على ما ذهبت إليه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه بعين رأسه جماعة من الصحابة منهم   ابن مسعود   وأبو هريرة  وغيرهم - رضي الله عنهم ، وبه قال جمع العلماء ، بل نقل  الدارمي  الحافظ إجماع الصحابة على ذلك ، واعترض الإمام  النووي  وغيره على من ذهب إلى مذهب  عائشة  بأنها - رضي الله عنها - لم تنف وقوع الرؤية بحديث مرفوع ، ولو كان معها لذكرته ، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الآية ، وقد خالفها غيرها من الصحابة ، والصحابي إذا قال قولا فخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقا ، والمراد بنفي الإدراك في الآية الكريمة نفي الإحاطة ، وذلك لا ينافي الرؤية . انتهى .  
كما قدمنا ذلك موضحا ، وجزمه بأن  عائشة  رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث مرفوع تبع فيه   ابن خزيمة  ، فإنه قال في كتاب التوحيد من صحيحه :      [ ص: 254 ] النفي لا يوجب علما ، قال : ولم تحك  عائشة  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرها أنه لم ير ربه ، وإنما تأولت الآية . انتهى .  
وهذا عجيب منهما ، ففي الصحيحين   والترمذي  وغيرهما أن  مسروقا  قال :  كنت متكئا عند  عائشة  رضي الله عنها فقالت : يا  أبا عائشة  ثلاث من تكلم بهن فقد أعظم على الله الفرية .  
قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله (  ولقد رآه بالأفق المبين      ) (  ولقد رآه نزلة أخرى      ) فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض . ثم قالت : أولم تسمع أن الله تعالى يقول (  لا تدركه الأبصار      ) وقرأت الآيتين     .  
وأخرجه  ابن مردويه  من طريق أخرى بإسناد  مسلم  فقالت :  أنا أول من سأل - رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن هذا فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطا     .  
نعم ، خالف   ابن عباس  عائشة  رضي الله عنها باحتجاجها بالآية الكريمة ، فأخرج  الترمذي  من طريق  الحكم بن أبان  عن  عكرمة  عن   ابن عباس     - رضي الله عنهما - قال :  رأى  محمد   ربه ، قلت : أليس الله يقول (  لا تدركه الأبصار      ) قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين     .  
وقال  شيخ الإسلام ابن تيمية      - قدس الله روحه - ما نقل عن   الإمام أحمد     - رضي الله عنه - من إثبات رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه إنما يعني رؤية المنام ، فإنه سئل عن ذلك ، قال : نعم رآه ، فإن رؤى الأنبياء حق ، ولم يقل إنه رآه بعين رأسه .  
وقال شيخ الإسلام أيضا :   ابن عباس     - رضي الله عنهما - لم يقل أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بعيني رأسه يقظة ، ومن حكى عنه ذلك فقد وهم ، وهذه نصوصه موجودة ليس فيها شيء من ذلك . قال : ولفظ   الإمام أحمد  كلفظ   ابن عباس     . قال : وأهل السنة متفقون على أن الله تعالى لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ، ولم يقع النزاع إلا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، مع أن الأحاديث المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه ، وإنما روي ذلك بإسناد موضوع باتفاق أهل الحديث . انتهى .  
وإذا علم ما حررناه فيمكن الجمع بين إثبات   ابن عباس  ونفي  عائشة   [ ص: 255 ]    - رضي الله عنهم - بأن يحمل نفيها على رؤية البصر ، وإثباته على رؤية القلب كما قاله  الحافظ ابن حجر  في شرح   البخاري     .  
ثم المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرد حصول العلم ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالما بالله على الدوام ، بل مراد من أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين ، وقد مر عن  أبي ذر     - رضي الله عنه -  أنه سأله - صلى الله عليه وسلم - هل رأيت ربك ؟ قال : " نور أنى أراه     " ورواه  الترمذي  أيضا بهذا اللفظ ، ورواه   الإمام أحمد  عنه قال " رأيت نورا " ،   ولابن خزيمة  عنه قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .  
قال  الحافظ ابن حجر     : وبهذا تبين مراد  أبي ذر  بذكر النور ، أي : أن النور حال ( بينه و ) بين رؤيته له ببصره .  
وقال الإمام المحقق  ابن القيم  في عدة مواضع من كتبه كإعلام الموقعين والجيوش وغيرهما : سمعت  شيخ الإسلام ابن تيمية      - قدس الله روحه - يقول : معناه كان ثم نور وحال دون رؤيته نور فأنى أراه ، ويدل عليه أن في بعض ألفاظ الصحيح :  هل رأيت ربك ؟ فقال : رأيت نورا     . قال المحقق  ابن القيم     : وقد أعضل أمر هذا الحديث على كثير من الناس حتى صحفه بعضهم فقال : نوراني أراه ، على أنها ياء النسبة والكلمة واحدة ، وهذا خطأ لفظا ومعنى ، وإنما أوجب لهم هذا الفهم أنهم لما اعتقدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه وكان قوله " أنى أراه " كالإنكار للرؤية حاروا في الحديث ، وبعضهم رده باضطراب لفظه ، وكل هذا عدول عن موجب الدليل . قال المحقق  ابن القيم     : ويدل على ما قال شيخنا قوله - صلى الله عليه وسلم : "  حجابه النور     " ، فهذا النور والله أعلم هو النور المذكور في حديث  أبي ذر     . انتهى .  
وذكر  ابن الأسير  في حل ألفاظ جامع الأصول : أن   الإمام أحمد     - رضي الله عنه - سأل عن حديث  أبي ذر  هذا فقال : مازلت منكرا لهذا الحديث وما أدري ما وجهه . وقال   ابن خزيمة     : في القلب من صحة هذا الخبر شيء . وقال بعض العلماء في هذا الحديث : قد أجمعنا على أنه تعالى ليس بنور ، وخطأنا  المجوس   في قولهم هو نور ، والأنوار أجسام ، والباري سبحانه وتعالى ليس بجسم ، والمراد بهذا الحديث أن حجابه سبحانه النور ، وكذلك روي في حديث      [ ص: 256 ] أبي موسى     - رضي الله عنه ، فالمعنى : كيف أراه وحجابه النور ، والله أعلم .  
( الثالث ) : الوقوف عن القطع بالنفي أو الإثبات في هذه المسألة ، وقد رجح هذا جماعة منهم  القرطبي  في المفهم في شرح صحيح  مسلم  ، فإنه قال : الوقوف في هذه المسألة أرجح ، وعزاه لجماعة من المحققين ، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع ، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل ، قال : وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية ، وإنما هي من المعتقدات ، فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي . ومن استنار قلبه لاقتفاء الآثار وخلع ربقة التقليد التي هي مثار التغيير في وجوه الأخبار علم أن السلامة في التسليم ، وفوق كل ذي علم عليم ، وبالله التوفيق .  
				
						
						
