الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
641 - وأما الحديث الذي أنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الفقيه ، نا علي بن محمد بن عيسى ، نا أبو اليمان ، أنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، قال: أخبرني سعيد بن المسيب ، وعطاء بن يزيد الليثي ، أن أبا هريرة ، أخبرهما أن الناس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟  قال: "هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فهل تمارون الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك، يحشر الناس يوم القيامة فيقال: من كان يعبد شيئا فليتبعه؛ فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه. فيأتيهم [ ص: 67 ] الله في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، ويدعوهم ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أول من يجيز بأمتي من الرسل، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟" قالوا: نعم يا رسول الله. قال: "فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوثق بعمله، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا أراد رحمة من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن أخرجوا من كان يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بأثر السجود، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنة والنار، فهو آخر أهل الجنة دخولا الجنة، مقبل بوجهه إلى النار يقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها. فيقول الله عز وجل: فهل عسيت إن فعلت ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزتك. فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيصرف الله وجهه [ ص: 68 ] عن النار، فإذا أقبل بوجهه على الجنة فرأى بهجتها فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم قال: يا رب قدمني عند باب الجنة، فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي كنت سألت؟ فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول: هل عسيت إن أعطيت ذلك ألا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غير ذلك، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا بلغ بابها انفهقت له فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: يا رب أدخلني الجنة، فيقول: يا ابن آدم ما أغدرك أو ليس قد أعطيت العهود والمواثيق ألا تسأل غير الذي أعطيت. فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك. فيضحك الله تبارك وتعالى منه، ثم يأذن له في دخول الجنة فيقول له: تمن. فيتمنى حتى إذا انقطع به، قال الله تبارك وتعالى: من كذا وكذا فسل، يذكره ربه، حتى إذا انتهت به الأماني، قال الله تبارك وتعالى: لك ذلك ومثله معه". قال أبو سعيد الخدري ، لأبي هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: "لك ذلك وعشرة أمثاله" . قال أبو هريرة: لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله: "لك ذلك ومثله معه" . قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ذلك وعشرة أمثاله". فهذا حديث قد رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان دون ذكر الصورة، ثم أخرجه من حديث معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد ، وفيه ذكر الصورة وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري ، ورواه مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن أبي اليمان نحو حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عطاء بن يزيد وفيه ذكر الصورة، وأخرجاه من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري ، إلا أن في حديثه: "في أدنى صورة من التي رأوه فيها" .

وقد تكلم الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله في تفسير هذا الحديث وتأويله بما فيه الكفاية، فقال: قوله "هل تمارون". من المرية وهي الشك في الشيء والاختلاف [ ص: 69 ] فيه، وأصله تتمارون، فأسقط إحدى التاءين.

وأما قوله: "فيأتيهم الله" إلى تمام الفصل فإن هذا موضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخريج، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله سبحانه، بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب وفي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك المجيء والإتيان، غير أنا لا نكيف ذلك ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها، فإن غير ذلك من نعوت الحدث، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويجب أن تعلم أن الرؤية التي هي ثواب للأولياء وكرامة لهم في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم يوم القيامة. واحتج بحديث صهيب في الرؤية بعد دخولهم الجنة، وإنما تعريضهم لهذه الرؤية امتحان من الله عز وجل لهم، يقع بها التمييز بين من عبد الله وبين من عبد الشمس والقمر والطواغيت، فيتبع كل من الفريقين معبوده، وليس ننكر أن يكون الامتحان إذ ذاك يعد قائما، وحكمه على الخلق جاريا، حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق، واستقرت أمور العباد قرارها. ألا ترى قوله: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون فامتحنوا هناك بالسجود. وجاء في الحديث أن المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طبقا واحدا.

قال: وتخريج معنى إتيان الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليثبتوه فتكون معرفتهم له في الآخرة عيانا كما كان اعترافهم برؤيته في الدنيا علما واستدلالا، ويكون طروء الرؤية بعد أن لم يكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه فيه. قيل: ويشبه أن يكون، والله أعلم، إنما حجبهم عن تحقيق الرؤية في الكرة الأولى حتى قالوا: "هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا" ، من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية، وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجاب فقالوا عند ما رأوه: "أنت ربنا" . وقد يحتمل أن يكون ذلك قول المنافقين دون المؤمنين. قال: وأما ذكر الصورة [ ص: 70 ] في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه: أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة،  فإن الصورة تقتضي الكيفية وهي عن الله وعن صفاته منفية، وقد يتأول معناها على وجهين: أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة، كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا، يريد صفته فتوضع الصورة موضع الصفة. والوجه الآخر: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوهما، ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة فقيل: يأتيهم الله في صورة كذا إذ كانت المذكورات قبله صورا وأجساما، وقد يحمل آخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الآخر. والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم، كالعمرين والأسودين والعصرين، ومثله في الكلام كثير. ومما يؤكد التأويل الأول هو أن معنى الصورة الصفة، قوله من رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد: "فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها". وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك، فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها، وقد تكون الرؤية بمعنى العلم، كقوله وأرنا مناسكنا أي: علمنا. قال أبو سليمان: "ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها، وأن مذهب كثير [ ص: 71 ] من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ، وكل منهم يرويه على حسب معرفته ومقدار فهمه وعادة البيان من لغته، وعلى أهل العلم أن يلزموا أحسن الظن بهم، وأن يحسنوا التأني لمعرفة معاني ما رووه، وأن ينزلوا كل شيء منه منزلة مثله، فيما تقتضيه أحكام الدين ومعانيها، على أنك لا تجد بحمد الله ومنه شيئا صحت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية