الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
756 - أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو الفضل بن إبراهيم ، نا أحمد بن سلمة ، نا محمد بن رافع ، نا شبابة بن سوار ، حدثني ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بنحو من حديث همام بن منبه إلا أنه قال: [ ص: 192 ] " وسقطهم وعجزهم" وانتهى حديثه عند قوله: "ويزوى بعضها إلى بعض" . رواه مسلم في الصحيح عن محمد بن رافع ، وبمعناه رواه أبو صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير إضافة، فقال: "حتى يضع فيها قدما" . قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: " فيشبه أن يكون من ذكر القدم والرجل، وترك الإضافة إنما تركها تهيبا لها، وطلبا للسلامة من خطأ التأويل فيها،  وكان أبو عبيد ، وهو أحد أئمة أهل العلم، يقول: "نحن نروي هذه الأحاديث ولا نريغ لها المعاني". قال أبو سليمان: "ونحن أحرى بأن لا نتقدم فيما تأخر عنه من هو أكثر علما وأقدم زمانا وسنا، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: منكر لما يروى من نوع هذه الأحاديث رأسا، ومكذب به أصلا، وفي ذلك تكذيب العلماء الذين رووا هذه الأحاديث وهم أئمة الدين ونقلة السنن، والواسطة بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والطائفة الأخرى مسلمة للرواية فيها ذاهبة في تحقيق الظاهر منها مذهبا يكاد يفضي بهم إلى القول بالتشبيه ونحن نرغب عن الأمرين معا، ولا نرضى بواحد منهما مذهبا، فيحق علينا أن نطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحت من طريق النقل والسند، [ ص: 193 ] تأويلا يخرج على معاني أصول الدين، ومذاهب العلماء، ولا نبطل الرواية فيها أصلا، إذا كانت طرقها مرضية ونقلتها عدولا". قال أبو سليمان: وذكر القدم ههنا يحتمل أن يكون المراد به: من قدمهم الله للنار من أهلها، فيقع بهم استيفاء عدد أهل النار. وكل شيء قدمته فهو قدم، كما قيل لما هدمته: هدم، ولما قبضته: قبض، ومن هذا قوله عز وجل: أن لهم قدم صدق عند ربهم أي ما قدموه من الأعمال الصالحة. وقد روي معنى هذا عن الحسن ، ويؤيده قوله في الحديث: "وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا" ، فاتفق المعنيان أن كل واحدة من الجنة والنار تمد بزيادة عدد يستوفي بها عدة أهلها، فتمتلئ عند ذلك". قال الشيخ أحمد: وفيما كتب إلي أبو نصر بن قتادة من كتاب أبي الحسن بن مهدي الطبري حكاية عن النضر بن شميل أن معنى قوله: "حتى يضع الجبار فيها قدمه" أي من سبق في علمه أنه من أهل النار.  قال أبو سليمان: قد تأول بعضهم الرجل على نحو من هذا، قال: والمراد به استيفاء عدد الجماعة الذين استوجبوا دخول النار. قال: والعرب تسمي جماعة الجراد رجلا كما سموا جماعة الظباء سربا وجماعة النعام خيطا، وجماعة الحمير عانة، قال: وهذا وإن كان اسما خاصا لجماعة الجراد، فقد يستعار لجماعة الناس على سبيل التشبيه. والكلام المستعار والمنقول من موضعه كثير، والأمر فيه عند أهل اللغة مشهور. قال أبو سليمان رحمه الله: وفيه وجه آخر، وهو أن هذه الأسماء أمثال يراد بها إثبات معان لا حظ لظاهر الأسماء فيها من طريق الحقيقة، وإنما أريد بوضع الرجل عليها نوع من الزجر لها والتسكين من غربها كما [ ص: 194 ] يقول القائل للشيء يريد محوه وإبطاله: جعلته تحت رجلي، ووضعته تحت قدمي. وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فقال: "ألا إن كل دم ومأثرة في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة البيت " . يريد محو تلك المآثر وإبطالها، وما أكثر ما تضرب العرب الأمثال في كلامها بأسماء الأعضاء، وهي لا تريد أعيانها، كما تقول في الرجل يسبق منه القول أو الفعل ثم يندم عليه: قد سقط في يده؛ أي ندم. وكقولهم: رغم أنف الرجل، إذا ذل. وعلا كعبه إذا جل. وجعلت كلام فلان دبر أذني، وجعلت يا هذا حاجتي بظهر، ونحوها من ألفاظهم الدائرة في كلامهم. وكقول امرئ القيس في وصف طول الليل:

فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل

وليس هناك صلب، ولا عجز، ولا كلكل؛ وإنما هي أمثال ضربها لما أراد من بيان طول الليل واستقصاء الوصف له، فقطع الليل تقطيع ذي أعضاء من الحيوان، وقد تمطى عند إقباله وامتد بعد بدوام ركوده، وطول ساعاته، وقد تستعمل الرجل أيضا في القصد للشيء والطلب له على سبيل جد وإلحاح، يقال: قام فلان في هذا الأمر على رجل، وقام على ساق إذا جد في الطلب، وبالغ في السعي. وهذا الباب كثير التصرف. فإن قيل: فهلا تأولت اليد والوجه على هذا النوع من التأويل، وجعلت الأسماء فيهما أمثالا كذلك؟ فإن قيل: إن هذه الصفات مذكورة في كتاب الله عز وجل بأسمائها، وهي صفات مدح، والأصل أن كل صفة جاء بها الكتاب أو صحت بأخبار التواتر أو رويت من طريق الآحاد وكان لها أصل في الكتاب، أو خرجت على بعض معانيه فإنا نقول بها ونجريها على ظاهرها من غير تكييف، وما لم يكن له في الكتاب ذكر، ولا في التواتر أصل، ولا له بمعاني الكتاب تعلق، وكان مجيئه من طريق الآحاد وأفضى بنا القول إذا أجريناه على ظاهره إلى [ ص: 195 ] التشبيه فإنا نتأوله على معنى يحتمله الكلام ويزول معه معنى التشبيه، وهذا هو الفرق بين ما جاء من ذكر القدم والرجل والساق، وبين اليد والوجه والعين،  وبالله العصمة، ونسأله التوفيق لصواب القول، ونعوذ بالله من الخطأ والزلل فيه، إنه رؤوف رحيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية