الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
870 - أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، قال : هذه نسخة الكتاب الذي أملاه الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب في مذهب أهل السنة فيما جرى بين محمد بن إسحاق بن خزيمة وبين أصحابه ، فذكرها وذكر فيها : الرحمن على العرش استوى بلا كيف ، والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة " وعلى هذه الطريق يدل مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وإليها ذهب أحمد بن حنبل ، والحسين بن الفضل البجلي . ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي . وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء ، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا أو نعمة أو غيرهما من أفعاله . ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله : الرحمن على العرش استوى وثم للتراخي ، والتراخي إنما يكون في الأفعال ، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة . وذهب أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري في آخرين من أهل النظر إلى أن الله تعالى في السماء فوق كل شيء مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه ، ومعنى الاستواء :  الاعتلاء ، كما يقول : استويت على ظهر الدابة ، واستويت على السطح . بمعنى علوته ، واستوت الشمس على رأسي ، واستوى الطير على قمة رأسي ، بمعنى علا في الجو ، فوجد فوق رأسي . والقديم سبحانه عال على عرشه لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش ، يريد به : مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد ، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها ، والقيام والقعود من أوصاف الأجسام ، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم [ ص: 309 ] يكن له كفوا أحد ، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام تبارك وتعالى . وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال : استوى بمعنى : علا ، ثم قال : ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والكون في مكان متمكنا فيه ، ولكن يريد معنى قول الله عز وجل : أأمنتم من في السماء أي : من فوقها على معنى نفي الحد عنه ، وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر ، ووصف الله سبحانه وتعالى بذلك بطريقة الخبر ، فلا نتعدى ما ورد به الخبر . قلت : وهو على هذه الطريقة من صفات الذات ، وكلمة ثم تعلقت بالمستوى عليه ، لا بالاستواء ، وهو كقوله : ثم الله شهيد على ما يفعلون يعني : ثم يكون عملهم فيشهده ، وقد أشار أبو الحسن علي بن إسماعيل إلى هذه الطريقة حكاية ، فقال : وقال بعض أصحابنا : إنه صفة ذات ، ولا يقال : لم يزل مستويا على عرشه ، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات ، ولا يقال : لم يزل عالما بأن قد حدثت ، ولما حدثت بعد ، قال : وجوابي هو الأول وهو أن الله مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها ،  بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها ، ولا يمسها ولا يشبهها ، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا . قال : وقد قال بعض أصحابنا : إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه ، وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة ، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره ، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته ، وأنها لم تقهره ، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات ، فنبه بالأعلى على الأدنى ، قال : والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة ، كما يقال : استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها ، وقال الشاعر في بشر بن مروان :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

[ ص: 310 ] يريد : أنه غلب أهله من غير محاربة . قال : وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء ، لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف ، قال : ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل : ثم استوى إلى السماء وهي دخان والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء ، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواء جاز أن تكون القدرة على العرش استواء . .

التالي السابق


الخدمات العلمية