507 - ذكر أبي حاتم الرازي واسمه محمد بن إدريس
قال أبو حاتم: أحصيت ما مشيت على قدمي في طلب الحديث زيادة على ألف فرسخ، سرت من مكة إلى المدينة مرات، ومن البحرين إلى مصر ، ومن مصر إلى الرملة، ومن الرملة إلى بيت المقدس وطبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى طرسوس ، ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، فكان بقي علي شيء من حديث ، فسمعت ثم [ ص: 1228 ] خرجت من أبي اليمان حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط ، ومن واسط إلى الكوفة، كل ذلك أمشي، هذا في السفر الأول، وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة ثلاث عشرة ومائتين، وخرجت المرة الثانية سنة اثنتين وأربعين، ورجعت سنة خمس وأربعين، وحججت الحجة الأولى سنة خمس عشرة ومائتين، والحجة الثانية سنة خمس وثلاثين، والثالثة سنة اثنين وأربعين، والرابعة سنة خمس وخمسين وفيها حج عبد الرحمن ابني، وقال: بقيت بالبصرة سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء، حتى بقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي على المشيخة، وأسمع منهم إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى بيت خال، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت من الغد وغدا علي رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد فانصرف عني وانصرفت جائعا، فلما كان الغد غدا علي.
فقال: سر بنا إلى المشايخ، فقلت: أنا ضعيف لا يمكنني، قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى كذا وكذا ما طعمت شيئا، فقال لي: قد بقي [ ص: 1229 ] دينار فأنا أقاسمك بنصفه وتحفظ النصف الآخر في الكرى، فخرجنا من البصرة وكنا في البحر فاحتلمت فأخبرت أصحابي به فقالوا: اغمر نفسك في البحر قلت: إني لا أحسن أسبح، فقالوا: إنا نشد فيك حبلا ونعلقك في الماء، فشدوا في حبلا وأرسلوني، في الماء وأنا في الهواء هو ذا أسرع الوضوء، فلما توضأت قلت: أرسلوني قليلا، فأرسلوني، فغمست نفسي في الماء، قلت: ارفعوني، فرفعوني، قال: فلما خرجنا من المدينة صرنا إلى الجار، وركبنا البحر وكنا ثلاثة أنفس وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا وفني ما كان معنا من الزاد، فخرجنا إلى البر، فجعلنا نمشي أياما على البر ففني ما كان معنا من الزاد والماء، فمشينا يوما لم يأكل أحد منا شيئا ولا شربنا، ويوم الثاني كمثله ويوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل فإذا جاء المسي صلينا وأبقينا بأنفسنا، فلما أصبحنا يوم الرابع، جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، فسقط الشيخ الذي كان معنا، مغشيا عليه، فتركناه، فمشيت أنا وصاحبي قدر فرسخ أو فرسخين، فضعفت وسقطت مغشيا علي ومضى صاحبي وتركني فلم يزل يمشي إذ أبصر من بعيد قوما قد قربوا سفينتهم إلى البر، ونزلوا على بئر موسى عليه السلام، فلما عاينهم لوح بثوبه إليهم، فجاءوا ومعهم الماء في إداوة فسقوه وأخذوا بيده فقال: الحقوا رفيقين [ ص: 1230 ] لي قد ألقيا بأنفسهما مغشيا عليهما، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي ففتحت عيني، فقلت: اسقني فصب الماء من ركوته شيئا يسيرا فشربت ورجعت إلي نفسي فقلت: اسقني فسقاني شيئا يسيرا، وأخذ بيدي فقلت: ورائي شيخ ملقى، قال: فذهب إلى ذلك جماعة وأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي يسقيني شيئا بعد شيء، حتى إذا بلغت إلى سفينتهم وأتوا برفيقي الشيخ وأحسنوا إلينا فبقينا أياما حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة يقال لها راية، إلى واليهم وزودونا من الكعك والسويق والماء، فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعا عطاشا على شط البحر فدفعنا إلى سلحفاة قد رمى بها البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير، فضربنا على ظهر السلحفاة، فانفلق ظهرها وإذا فيها مثل صفرة البيض، فأخذنا من بعض الأصداف الملقاة على شط البحر، فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش حتى دخلنا مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم، فأنزلنا في داره وأحسن إلينا، وكان يقدم إلينا كل يوم القرع، ويقول لخادمه: هاتي لهم باليقطين المارك، فقال واحد [ ص: 1231 ] منا بالفارسية: ألا ندعو باللحم: فقال صاحب الدار: أنا أحسن بالفارسية، فإن جدتي كانت هروية، فأتانا بعد ذلك باللحم ثم خرجنا من هناك فزودنا إلى أن بلغنا مصر .