الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        قوله عز وجل: ولقد صدقكم الله وعده   .

        1036 - حدثنا موسى بن هارون ، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جمهور ، قال: حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى ، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه، قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: يا خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد، قال: " اقرأ بعد العشرين ومائة، من آل عمران، تجد قصتنا: وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال إلى قوله: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، وذكر بقية الحديث [ ص: 429 ] .

        1037 - حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، في حديثه عن عروة ، قال : كانت وقعة أحد ، في شوال ، على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير ، وكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من وقعة بدر   .

        1038 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج بن منهال ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت كأني في درع حصينة ، ورأيت بقرا منحرة ، فأولت أن الدرع المدينة ، وأن البقر بقر ، والله خير . فلو أقمنا بالمدينة ، فإن دخلوا علينا ، قاتلناهم " فقالوا : والله ما دخلت علينا في الجاهلية ، أفتدخل علينا في الإسلام؟ ! قال : " فشأنكم إذا ! " فقالت الأنصار بعضها لبعض : رددنا على النبي صلى الله عليه وسلم رأيه ، فجاءوا ، فقالوا : يا رسول الله ، شأنك ! فقال : " آلآن ! إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها ، حتى يقاتل   " .

        1039 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أحمد بن محمد ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن ابن شهاب ، ومحمد بن يحيى بن حيان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عمرو ، وغيرهم ، وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من هذا الحديث ، عن يوم أحد   .

        [ ص: 430 ] قال : خرجت قريش حتى نزلوا العينين ، جبل ببطن السبخة ، من قناة ، على شفير الوادي ، مما يلي المدينة ، ونزلت قريش منزلها أحدا ، يوم الأربعاء ، فأقاموا ذلك اليوم ، ويوم الخميس ، ويوم الجمعة ، ومضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بالشعب من إحدى عدوتي الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وأمر على الرماة عبد الله بن جبير ، أخا بني عمرو بن عوف ، والرماة خمسون رجلا . فقال : انضح عنا الخيل بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت علينا أو لنا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك ! .

        وظاهر رسول الله بين درعين ، وقال : من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام أبو دجانة فقال : أنا آخذه بحقه ، فأعطاه إياه ، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذا كانت ، وكان إذا علم بعصابة له حمراء ، يتعصب بها على رأسه ، علم الناس أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته ، فعصبها برأسه ، ثم جعل يتبختر بين الصفين ، وأقبل القوم حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن [ ص: 431 ] في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، في رجال من المسلمين ، فأنزل الله عز وجل نصره ، وصدقهم وعده ، فحسوهم بالسيف حتى كشفوهم عن العسكر ، وكانت الهزيمة لا شك فيها
        .

        1040 - قال أحمد : فحدثنا إبراهيم ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، عن الزبير ، قال والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها ، مشمرات هوارب ، ما دون إحداهن قليل ، ولا كثير .

        -قال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم : إن اللواء مرتفع ، حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية ، فدفعته لقريش ، فلاذوا بها ، وكان اللواء مع صواب غلام لبني طلحة ، حبشي ، وكان آخر من أخذه منهم ، فقاتل [بها] حتى قطعت يداه ، ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول : اللهم هل أعزرت؟ ! يقول : هل أعذرت   .

        -قال أحمد : فحدثنا إبراهيم ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر ، قال : وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن [ ص: 432 ] هاشم بن عبد مناف بن قصي   -وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء- ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني ، وكان يكنى بأبي نيار ، فقال له حمزة : هلم إلي يابن مقطعة البظور ! وكانت أمه أم أنمار ، مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكانت ختانة بمكة ، فلما التقيا ضربه حمزة فقتله .

        قال محمد بن إسحاق : فقال حسان بن ثابت في قطع يدي صؤاب ، حين تقاذعوا الشعر :


        فخرتم باللواء وشر فخر لواء حين رد إلى صؤاب     جعلتم فخركم فيها لعبد
        من الأم من وطى عفر التراب     ظننتم ، والسفيه له ظنون
        وما إن ذاك من أمر الصواب     بأن جلادنا يوم التقينا
        بمكة بيعكم حمر العياب     أقر العين أن عصبت يداه
        وما إن تعصبان على خضاب



        1041 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير ، قال : مالت الرماة إلى العسكر ، حتى كشفنا القوم عنه يريدون النهب ، [ ص: 433 ] وخلوا ظهورنا للجبل ، يعني : يوم أحد ، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، فانكشفنا ، وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد ، من القوم .

        قال وحشي ، غلام جبير بن مطعم : والله إني لأنظر إلى حمزة ، يهد الناس بسيفه ما يليق شيئا . . . . مثل الجمل الأورق إذ تقدمني إليه سباع ، فقال له حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور ، فضربه ، فكأنما أخطأ رأسه ، وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها ، دفعتها عليه ، فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه ، فأقبل نحوي ، فغلب فوقع ، فأهملته حتى إذا مات جئت ، فأخذت حربتي ، ثم تنحيت إلى العسكر ، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره
          .

        1042 - فوقفت هند بنت عتبة كما حدثنا علي ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا إبراهيم ، عن محمد بن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، قال : وقفت [ ص: 434 ] هند بنت عتبة ، والنسوة اللاتي معها ، يمثلن بالقتلى ، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجدعن الآذان والآنف ، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا ، غلام جبير بن مطعم ، وبقرت عن كبد حمزة ، ولاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، ثم علت على صخرة مشرفة ، فصرخت بأعلى صوتها   .

        1043 - قال ابن إسحاق ، عن صالح بن كيسان ، أنه حدث ، أن عمر بن الخطاب قال لحسان بن ثابت : يابن الفريعة لو سمعت هندا ورأيت أشرها ، قائمة على صخرة ، ترتجز بنا ، وتذكر ما صنعت بحمزة؟ ! وقد كان الحليس بن زبان ، أخو بني الحارث بن عبد مناف ، -وهو يومئذ سيد الأحابيش- قد مر بأبي سفيان ، وهو يضرب في شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ، ويقول : ذق عقق . فقال الحليس : يا بني عبد كنانة ، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون ، فقال : ويحك ! اكتمها علي ، فإنها زلة كانت .

        [ ص: 435 ] قال ابن إسحاق ، أنه بلغه ، قال : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة بن عبد المطلب ، فوجده ببطن الوادي ، قد بقر بطنه عن كبده ، ومثل به ، فجدع أنفه وأذناه  
        .

        1044 - فحدثنا علي ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا إبراهيم ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال حين رأى به ما رأى : لولا أن تحزن صفية ، أو تكون سنة بعدي ، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير .

        فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على ما فعل بعمه ، قالوا : والله لئن أظهرنا الله عليهم ، لنمثلن بهم
         
        .

        قال إبراهيم بن سعد : وبلغني أن عبد الرحمن بن عوف . . . يومئذ ، وبه إحدى وعشرون جراحة وهتم ، وجرح في رجله ، فعرج من ذلك الجرح   .

        وقد أقبلت -فيما بلغني- صفية بنت عبد المطلب ، لتنظر إليه ، وكان أخاها لأمها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير بن العوام : القها [ ص: 436 ] فأرجعها; لا ترى ما بأخيها ، فلقيها الزبير بن العوام ، فقال لها : يا أمه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي ، فقالت : ولم؟ وقد بلغني أن قد مثل بأخي ، وذلك في (ذات ) الله ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! . لأصبرن ولأحتسبن إن شاء الله .

        فلما جاء الزبير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بذلك ، قال : خل سبيلها ، فأتته ، فنظرت إليه ، فصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له ، ثم أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفن .

        فزعم آل عبد الله بن جحش -وكان لأميمة بنت عبد المطلب حمزة خاله ، وكان قد مثل به كما مثل بحمزة ، إلا أنه لم يبقر عن كبده- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفنه مع حمزة في قبره ، ولم أسمع ذلك إلا عن أهله .

        قال : وقد احتمل أناس من المسلمين قتلاهم إلى المدينة ، فدفنوهم بها ، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقال : ادفنوهم حيث صرعوا   .

        قال ابن إسحاق : ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار ، من بني عبد الأشهل وظفر ، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له ! فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حصين إلى دار بني عبد الأشهل ، أمرا نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        [ ص: 437 ] قال ابن إسحاق : فحدثني حكيم بن حكيم ، عن عباد بن حنيف ، عن بعض رجال بني عبد الأشهل ، قال : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن على حمزة ، خرج إليهن - وهن على باب المسجد يبكين عليه- فقال : ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتن بأنفسكن   .

        قوله جل وعز : إذ تحسونهم بإذنه .

        1045 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جمهور ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثنا محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : يا خال أخبرني عن يوم أحد  ، قال : اقرأ وإذ غدوت من أهلك إلى قوله عز وجل : إذ تحسونهم بإذنه قال : الحس : القتل [ ص: 438 ] .

        1046 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : إذ تحسونهم بإذنه يقول ابن عباس : الحس القتل .

        1047 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا مسلم ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذ تحسونهم بإذنه قال إذ تقتلونهم .

        وممن قال بهذا القول : سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، وقتادة .

        1048 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا زياد ، عن محمد بن إسحاق : إذ تحسونهم بإذنه إذ تحسونهم بالسيوف ، أي : القتل [بإذني ، وتسليطي أيديكم] عليهم ، وكفي أيديهم عنكم .

        1049 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا الأثرم ، عن [ ص: 439 ] أبي عبيدة : إذ تحسونهم بإذنه تستأصلونهم قتلا ، يقال : أحسسناهم من عند آخرهم ، أي : استأصلناهم .

        1050 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : سمعت البراء بن عازب ، يحدث قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد   -وكانوا خمسين رجلا- عبد الله بن جبير ، ووضعهم مكانا ، وقال لهم : إن رأيتمونا تتخطفنا الطير ، فلا تبرحوا مكانكم هذا ، حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم ، فلا تبرحوا ، حتى أرسل إليكم .

        وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال : مضى- في من معه ، فهزمهم ، فأنا -والله- رأيت النساء يشددن على الجبل ، قد بدت خلاخلهن ، وأسوقهن ، رافعات ثيابهن . فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم ، فماذا تنتظرون؟ !
        .

        1051 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، قال : ما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصر في أحد ، قال : فأنكر ذلك عليه ، فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك ، [ ص: 440 ] كتاب الله ، إن الله عز وجل يقول في يوم أحد : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه يقول ابن عباس : والحس : القتل حتى إذا فشلتم إلى قوله : ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين وإنما عنى بهذا : الرماة . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ، ثم قال : احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا ، فلا تشركونا . فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا ، فدخلوا العسكر ينتهبون ، وقد التفت صفوف فهم هكذا ، وشبك بين أصابع يديه ، والتبسوا .

        فلما أخلى الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فضرب بعضهم بعضا ، والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار ، حتى قتل من أصحاب اللواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار ، إنما كانوا تحت المهراس ، وصاح الشيطان : قتل محمد ، فلم يشك فيه أحد أنه حق .

        فما زلنا كذلك لا يشك أنه قد قتل ، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين نعرفه بتكفئه إذا مشى ، قال : ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا .

        قال : فرقى نحونا وهو يقول : اشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسوله  ، قال : ويقول مرة : اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا ، حتى انتهى إلينا .

        قال : فمكث ساعة ، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : اعل هبل ! ! [ ص: 441 ] اعل هبل ! ! يعني : آلهته . أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن أبي الخطاب ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ! ألا أجيبه ؟   ! قال : بلى ! فلما قال : اعل هبل ، قال عمر : الله أعلى وأجل .

        قال : فقال أبو سفيان : يا ابن الخطاب إنه قد أنعمت ! فعاد عنها ، أو فقال عنها ، قال : فقال : أين ابن أبي كبشة ؟ أين ابن أبي قحافة ؟ أين ابن الخطاب ؟ !

        قال : فقال عمر : هذا رسول الله ! هذا أبو بكر ! وهأنا ذا عمر ! فقال أبو سفيان : يوم كيوم بدر ، إن الأيام دول ، وإن الحرب سجال .

        قال : فقال عمر : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار قال : إنكم لتزعمون ذلك ! لقد خبنا إذا وخسرنا ، ثم قال أبو سفيان : أما إنكم سوف تجدون في قتلاكم مثل ، ولم يكن ذاك عن رأي سراتنا .

        قال : ثم أدركته حمية الجاهلية ، فقال : أما إنه إذ كان ذاك لم نكرهه
        [ ص: 442 ] .

        قوله جل وعز : إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر الآية

        1052 - حدثنا علي بن المبارك ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس : حتى إذا فشلتم قال الفشل : الجبن .

        1053 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا زياد ، عن محمد بن إسحاق : حتى إذا فشلتم أي تخاذلتم وتنازعتم في الأمر ، أي : اختلفتم في أمري .

        -وقال قتادة : إذا فشلتم تقول : جبنتم .

        قوله جل وعز : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون .

        1054 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : حدثنا زهير ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال سمعت البراء بن عازب -وذكر شأن أحد ، وخبر الرماة ، وهزيمة المشركين- قال البراء : " فأنا -والله- رأيت النساء يشددن على الجبل قد بدت خلاخلهن وأسوقهن ، رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير -يعني : الرماة- : الغنيمة أي قوم الغنيمة ، ظهر أصحابكم فماذا تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم [ ص: 443 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : أما -والله- لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم ، صرفت وجوههم ، فأقبلوا منهزمين   .

        1055 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون فإنما عنى بهذا الرماة ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع ، ثم قال : احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل ، فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا   .

        فلما غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباحوا عسكر المشركين ، انكفت الرماة جميعا ، فدخلوا العسكر ينتهبون ، وقد التفت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم هكذا -وشبك بين أصابع يديه- التبسوا ، فلما أخلى الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها ، دخلت الخيل من ذلك الموضع
        .

        1056 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني ، قال : حدثنا داود بن مهران ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، في قوله عز وجل : حتى إذا فشلتم قال : وكان وضع خمسين رجلا من أصحابه ، عليهم عبد الله ، فجعلهم بإزاء خالد بن الوليد على جبل المشركين .

        [ ص: 444 ] فلما هزم رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، قال نصف أولئك : نذهب حتى نلحق بالناس ، ولا يفوتنا بالغنائم . وقال بعضهم : قد عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نريم حتى يحدث إلينا ، قال : فلما رأى خالد بن الوليد رقتهم حمل عليهم ، فقاتلوا حتى ماتوا ، فأنزل الله جل وعز فيهم : ولقد صدقكم الله وعده إلى قوله : وعصيتم فجعل أولئك الذين انصرفوا عصاة
        .

        1057 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا ابن زياد ، عن محمد بن إسحاق : وتنازعتم في الأمر أي : اختلفتم في أمري ، وعصيتم ، أي : تركتم ما أمر نبيكم ، وما عهد إليكم ، يعني : الرماة من بعد ما أراكم ما تحبون أي : الفتح ، لا شك فيه .

        1058 - حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جمهور ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عمران ، قال : حدثنا محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، قال : قلت لعبد الرحمن بن عوف : يا خال ! أخبرني عن يوم أحد ، قال : اقرأ إلى قوله : وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون قال : معصية الرماة ما أمروا به أن لا يبرحوا مصافهم [ ص: 445 ] .

        1059 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا زهير هو ابن خيثمة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : من بعد ما أراكم ما تحبون الغنائم ، وهزيمة القوم ؟

        قوله جل ذكره : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة .

        1060 - حدثنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، عن ابن مسعود ، قال : إن النساء كن يوم أحد خلف الرجال ، يجهزن على جرحى المشركين  ، قال : ولو حلفت أنه لم يكن منا أحد يومئذ يريد الدنيا ، لرجوت أن أبر ، حتى أنزل الله عز وجل : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة فلما خالف القوم ما أمرهم به رسول الله وعصوا أمره ، أفرد رسول الله في تسعة ، سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش .

        1061 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا زياد ، عن محمد بن إسحاق : منكم من يريد الدنيا أي : الذين أرادوا النهب ، رغبة في الدنيا ، وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة : ومنكم من يريد الآخرة أي : الذين جاهدوا في الله ، ولم يخالفوا إلى ما نهوا عنه [ ص: 446 ] لغرض من الدنيا ، رغبة فيه ، رجاء ما عند الله من حسن ثوابه ، في الآخرة .

        قوله جل وعز ثم صرفكم عنهم ليبتليكم .

        1062 - أخبرنا علي بن عبد العزيز ، قال : حدثنا الأثرم ، عن أبي عبيدة : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم أي: " ليبلوكم ، ليختبركم ، ويكون ليبتليكم بالبلاء .

        1063 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا زياد ، عن محمد بن إسحاق : ثم صرفكم عنهم ليبتليكم أي : ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم ولقد عفا عنكم .

        1064 - حدثنا علي ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا حماد ، قال : أخبرنا عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، عن ابن مسعود ، في قصة أحد ، قال : فلما خالف القوم ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا أمره ، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة ، سبعة من الأنصار ، ورجلين من قريش ، فلما زهقوهم قال : يرحم الله رجلا ردهم عنا ، فحمل رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، فلما زهقوه أيضا ، قال : يرحم الله رجلا ردهم عنا ! فقام رجل من الأنصار [ ص: 447 ] فقاتل حتى قتل ، حتى قتلوا السبعة  ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : ما أنصفنا أصحابنا .

        1065 - حدثنا علي ، قال : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا صالح المري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على حمزة حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منه ، ونظر إليه قد مثل به ، قال : فقال : " رحمة الله عليك ، كنت -ما علمتك- وصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، ولولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أدعك حتى تحشر من أفواج شتى ! أما والله -مع ذاك- لأمثلن بسبعين منهم مكانك " .

        قال : فنزل جبريل عليه السلام واقفا بعد ، بخواتيم سورة النحل ، قال : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به إلى آخر السورة قال : فصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفر عن يمينه ، وأمسك عما أراد
         
        .

        قوله جل وعز : ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين .

        1066 - حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عمرو ، قال : أخبرنا زياد ، عن محمد بن إسحاق : ولقد عفا عنكم عن عظيم ذلك ، أي : لا أهلككم [ ص: 448 ] بما أتيتم من معصية نبيكم عليه السلام ، ولكني عدت بفضلي عليكم . وكذلك من الله على المؤمنين ، إن عاقبت ببعض الذنب ، في عاجل الدنيا أدبا وموعظة ، فإني غير مستأصل لكم ، ما فيه الحق لي عليهم بما أصابوا من معصيتي; رحمة لهم ، وعائدة عليهم ، لما فيهم من الإيمان .

        1067 - حدثنا علي بن المبارك ، قال : حدثنا زيد ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن ابن جريج : ولقد عفا عنكم إذ لم يستأصلكم .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية