الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأيضا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة ، فإن الراوندية [1] تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي .

                  قال القاضي أبو يعلى وغيره : " واختلف الراوندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على العباس بعينه واسمه ، وأعلن ذلك وكشفه وصرح به ، وأن الأمة جحدت [2] هذا النص وارتدت وخالفت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [3] عنادا . ومنهم من قال : إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة " [4] يعني هو نص خفي .

                  فهذان قولان للراوندية كالقولين للشيعة ، فإن الإمامية تقول : إنه نص على [ علي بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - [5] من طريق التصريح والتسمية [ ص: 501 ] بأن هذا هو الإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا . والزيدية [6] تخالفهم في هذا .

                  ثم من الزيدية من يقول : إنما نص عليه بقوله : من كنت مولاه فعلي مولاه [7] ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى [8] ، وأمثال ذلك من النص [ ص: 502 ] الخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه . وحكي عن الجارودية من الزيدية [9] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي بصفة لم تكن توجد إلا فيه ، لا من جهة التسمية .

                  فدعوى الراوندية في النص من جنس دعوى الرافضة ، وقد ذكر في الإمامية أقوال أخر .

                  قال [ أبو محمد ] بن حزم [10] " اختلف القائلون بأن الإمامة [11] لا تكون [12] إلا في صليبة قريش [13] ، فقالت طائفة : هي جائزة في [ ص: 503 ] جميع ولد فهر بن مالك بن النضر [14] ؛ وهذا قول أهل السنة وجمهور المرجئة [15] وبعض المعتزلة .

                  وقالت طائفة : لا تجوز الخلافة إلا في ولد العباس [ بن عبد المطلب ] [16] ، وهم الراوندية [17] .

                  وقالت طائفة : لا تجوز [ الخلافة ] [18] إلا في ولد علي بن أبي طالب  [19] .

                  وقالت طائفة : لا تجوز [ الخلافة ] [20] إلا في ولد جعفر بن أبي طالب [21] ( * ثم قصروها [22] على عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب * ) [23] . وبلغنا عن بعض بني الحارث بن عبد المطلب أنه كان [ ص: 504 ] يقول : لا تجوز الخلافة إلا لبني [24] عبد المطلب خاصة ، ويراها في جميع ولد [25] عبد المطلب ، وهم : أبو طالب وأبو لهب والعباس والحارث [26] " .

                  قال [27] : " وبلغنا [28] [ عن رجل كان بالأردن يقول : لا تجوز الخلافة إلا في بني عبد شمس [29] ، وكان له [30] في ذلك تأليف مجموع " .

                  قال [31] : " ورأينا [32] كتابا مؤلفا لرجل من ولد عمر بن الخطاب [33] يحتج فيه أن [34] الخلافة لا تجوز إلا في ولد أبي بكر وعمر خاصة [35] " ، وسيأتي تمام الكلام على تنازع الناس في الإمامة  إن شاء الله تعالى .

                  والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها ، فإن دعواهم النص على علي ، كدعوى أولئك النص على العباس ، وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار ، ولم يقل أحد من أهل العلم شيئا من هذين القولين ، [ ص: 505 ] وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ؛ ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدعوان هذا ولا هذا ، بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم ، وسنذكر إن شاء الله تعالى فصل الخطاب في هذا الباب .

                  لكن المقصود أن لهم أدلة وحججا من جنس أدلة المستدلين في موارد النزاع ، ويكفيك أن أضعف ما استدلوا به استدلالهم بتسميته خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه قد تقدم أن القائلين بالنص على أبي بكر منهم من قال بالنص الخفي ، ومنهم من قال بالنص الجلي .

                  وأيضا ، فقد روى ابن بطة [36] بإسناده ، قال حدثنا أبو الحسن بن أسلم الكاتب [37] ، حدثنا الزعفراني [38] ، حدثنا يزيد بن هارون [39] حدثنا المبارك بن فضالة [40] ، أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير [ ص: 506 ] الحنظلي [41] إلى الحسن فقال : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر ؟ فقال : أوفي شك صاحبك ؟ نعم ، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه ، لهو أتقى من أن يتوثب عليها . قال ابن المبارك : استخلافه هو أمره أن يصلي بالناس ، وكان هذا عند الحسن استخلافا "   .

                  قال : " وأنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد [42] حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب [43] ، حدثنا يحيى بن سليم [44] . حدثنا جعفر بن [ ص: 507 ] محمد [45] - 105 ، وفيها أنه مات 148 . ، عن أبيه [46] ، عن عبد الله بن جعفر [47] قال : ولينا أبو بكر فخير خليفة أرحمه بنا وأحناه علينا [48] . قال : وسمعت معاوية بن قرة [49] يقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر " [50] .

                  ثم القائلون بالنص على أبي بكر من قال بالنص الجلي ، واستدلوا على ذلك باتفاق الصحابة على تسميته خليفة رسول الله [ ص: 508 ] - صلى الله عليه وسلم - قالوا [51] : والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره ، واعتقدوا أن الفعيل بمعنى المفعول ، فدل ذلك على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف [52] على أمته .

                  والذين نازعوهم في هذه الحجة قالوا : الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ، ولمن خلف غيره فهو فعيل بمعنى فاعل ، كما يقال : خلف فلان فلانا . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين [53] : " من جهز غازيا فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا " [54] . وفي الحديث الآخر : " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا " [55] .

                  [ ص: 509 ] وقال تعالى : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات [ سورة الأنعام : 165 ] . وقال تعالى : ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [ سورة يونس : 14 ] [56] وقال تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة [ سورة البقرة : 30 ] . وقال : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق [ سورة ص : 26 ] [57] ، أي خليفة عمن قبلك من الخلق ، ليس المراد أنه [58] خليفة عن الله ، وأنه من الله كإنسان العين من العين ، كما يقول ذلك بعض الملحدين القائلين بالحلول والاتحاد ، كصاحب " الفتوحات المكية " ، وأنه الجامع لأسماء الله الحسنى ، وفسروا بذلك قوله تعالى : وعلم آدم الأسماء كلها [ سورة البقرة : 31 ] [59] وأنه مثل الله الذي نفي عنه [ ص: 510 ] الشبه [60] بقوله ليس كمثله شيء [61] ، [ سورة الشورى : 11 ] ، إلى أمثال هذه المقالات التي فيها من تحريف المنقول [62] وفساد المعقول ما ليس هذا موضع بسطه [63] .

                  والمقصود هنا أن الله لا يخلفه غيره ، فإن الخلافة إنما تكون عن غائب ، وهو سبحانه شهيد مدبر لخلقه لا يحتاج في تدبيرهم إلى غيره  ، وهو [ سبحانه ] [64] خالق الأسباب والمسببات جميعا ، بل هو سبحانه يخلف عبده المؤمن إذا غاب عن أهله . ويروى [65] أنه قيل لأبي بكر : يا خليفة الله . فقال : بل أنا خليفة رسول الله ، وحسبي ذاك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية