وإذا قيل : كالأفلاك ونوع الحركات ، وبعضه ليس بأزلي كآحاد الأشخاص ، والحركات . إن بعض العالم أزلي
قيل : هذا يقتضي بطلان قولهم من وجوه :
أحدها : أنه إذا جاز كونه فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء أمكن أن يكون كل ما سواه حادثا ، فالقول بقدم شيء معين من العالم قول بلا حجة .
[ ص: 190 ] . الثاني : أن كونه محدثا للحوادث شيئا بعد شيء بدون قيام سبب به يوجب الإحداث ممتنع ، فإن الذات إذا كان حالها قبل هذا ، وبعد هذا ، ومع هذا . [1] واحدة امتنع أن تخص هذا بالإحداث دون هذا ، بل امتنع أن تحدث شيئا .
الثالث : [ أنه ] [2] إن [3] جوز أن تحدث شيئا بدون سبب يقوم بها جاز أن يكون لجميع الحوادث ابتداء ، فلا يكون في العالم شيء قديم ، وإن لم يجوز ذلك [4] بطل قولهم بأنها تحدث الحوادث بدون سبب يقوم بها .
الرابع : أن إحداث الحوادث إن لم يجز بدون سبب يقوم بها بطل قولهم ، وإن [5] افتقر إلى سبب يقوم بها لزم أن يقوم بها تلك الأمور دائما شيئا بعد شيء ، فلا تكون فاعلة قط إلا مع قيام ذلك بها ، فيمتنع أن يكون لها مفعول معين أزلا وأبدا ; لأن صدور ذلك عن ذات تفعل ما يقوم بها شيئا بعد شيء ممتنع ; لأن ما تفعل بهذه الواسطة لا يكون فعلها إلا شيئا بعد شيء ، فيمتنع أن يكون لها فعل معين لازم لها ، وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون لها مفعول معين لازم لها .
الخامس : أنه إذا قدر أن شيئا من معلولاتها لازم لها أزلا وأبدا لم يكن ذلك إلا لكون الذات علة تامة موجبة له ، ومعلوم أن المعين [ ص: 191 ] مخصوص بقدر وصفة وحال [6] ، وهذا التخصيص الذي فيه يستلزم أن يكون الاختصاص في علته ، وإلا فالعلة التي لا اختصاص لها لا توجب ما هو مختص بقدر وحال وصفة .
ومعلوم أنه إذا قدر أن الفاعل هو الذات المجردة عن الأحوال المتعاقبة عليها سواء قيل : إنه لا يقوم بها الأحوال ، أو قيل : إنها تقوم بها لكن على التقديرين [7] لا تكون موجبة لشيء قديم أزلي إلا لمجرد الذات المجردة عن الأحوال المتعاقبة ; لأن الأحوال المتعاقبة آحادها موجودة شيئا بعد شيء ، فيمتنع أن تكون موجبة [8] لشيء قديم أزلي ، فإن الموجب القديم المعين الأزلي أولى أن يكون قديما أزليا معينا ، والأحوال المتعاقبة ليس منها [9] شيء قديم معين [10] أزلي ، فيمتنع أن يكون الموجب المشروط بها قديما أزليا .
فإذا قدر أنه قديم أزلي لم يكن ذلك إلا بتقدير أن تكون الذات المجردة هي الموجبة والذات المجردة ليس فيها اختصاص يوجب تخصيص الفلك دون غيره بكونه معلولا بخلاف ما إذا قيل : إنه حدث بعد أن لم يكن لأسباب أوجبت الحدوث ، والتخصيص ، فإن هذا السؤال يندفع ، وهذا دليل مستقل في المسألة ، ولم يتقدم بعد ذكره في هذا الكتاب .
[ ص: 192 ] . السادس : أنه إذا كانت الأحوال لازمة لها كان بتقدير فعلها بدون الأحوال تقديرا ممتنعا ، وحينئذ فالذات المستلزمة للأحوال المتعاقبة لا تفعل بدونها ، وإذا كان الفاعل لا يفعل إلا بأحوال متعاقبة امتنع قدم شيء من مفعولاته ; لأن القديم يقتضي علة تامة أزلية ، وما يستلزم الأحوال المتعاقبة لا يكون اقتضاؤه في الأزل لشيء معين تاما أزليا ، بل إنما يتم اقتضاؤه لكل مفعول عند وجود الأحوال التي بها يصير فاعلا .
السابع : أنه إن جاز أن يقوم بالفاعل الأحوال المتعاقبة جاز ، بل وجب حدوث كل ما سواه ، وإن لم يجز ذلك ، فإما أن يقال : يمتنع حدوث شيء ، ومعلوم وجود الحوادث ، وإما أن يقال : بل تحدث بلا سبب حادث في الفاعل ، وحينئذ فيلزم جواز حدوث كل ما سوى الله تعالى ، فإنه إذا جاز أن يحدث الحوادث دائما بلا سبب يقتضي حدوثها ، فلأن تحدث جميعها بلا سبب يقتضي حدوثها أولى ، فإن هذا أقل محذورا ، فإذا جاز الحدوث مع المحذور الأعظم ، فمع الأخف أولى .
وأيضا ، فالأول إن كان مستلزما لتلك الحوادث كان الجميع قديما ، وهو ممتنع كما تقدم [11] ، وإن لم يكن مستلزما لتلك الحوادث كانت حادثة بعد أن لم تكن ، فيلزم حدوث الحوادث بدون سبب حادث ، [ وإن كان مستلزما لنوعها دون الآحاد ، فقد عرف بطلان ذلك من وجوه ] [12] ، ولو [13] جاز حدوث الحوادث بدون سبب حادث لجاز حدوث العالم ، [ ص: 193 ] وإذا جاز حدوث العالم امتنع قدمه ; لأنه [ لا ] [14] يكون قديما إلا لقدم العلة الموجبة له .
وإذا قدر أن ثم علة موجبة [ له ] [15] ، فإنه يجب القدم ، ويمتنع الحدوث ، وإذا جاز حدوثه امتنع قدمه ، فكذلك إذا جاز قدمه امتنع حدوثه ، فإنه لا يجوز قدمه إلا لقدم موجبه ، ومع ذلك يمتنع حدوثه ، فكما أن الممكن الذهني الذي يقبل الوجود والعدم إذا حصل المقتضى التام . وجب وجوده ، وإلا وجب عدمه ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وليس في الخارج إلا ما وجب وجوده بنفسه أو بغيره ، أو ما امتنع وجوده بنفسه أو بغيره ، فكذلك [16] القول في قدم الممكن وحدوثه : ليس في الخارج إلا ما يجب قدمه ، أو يمتنع قدمه ، فإذا حصل موجب قدمه بنفسه أو بغيره ، وإلا امتنع قدمه ، ولزم إما دوام عدمه ، وإما حدوثه ، فمع القول بجواز حدوثه يمتنع قدم العلة الموجبة له ، فيمتنع قدمه ، فلا يمكن أن يقال : إنه يجوز حدوثه مع إمكان أن يكون قديما ، بل [17] إذا ثبت جواز حدوثه ثبت امتناع قدمه .
ولهذا كان كل من جوز حدوث الحوادث [18] بدون سبب حادث يقول بحدوثه ، ومن قال بقدمه لم يقل أحد منهم بجواز حدوث الحوادث بدون سبب حادث - وإن كان هذا القول مما يخطر بالبال تقديره بأن [ ص: 194 ] يقال : يمكن حدوث الحوادث بلا سبب حادث ; لأن [ الفاعل ] القادر المختار [19] يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح ، ويمكن مع ذلك قدم العالم بأن يكون المختار رجح قدمه بلا مرجح - فإن هذا القول لظهور بطلانه لم يقله أحد من العقلاء فيما نعلم ; لأنه مبني على مقدمتين كل منهما باطلة في نظر [20] العقول - وإن كان من العقلاء من التزم بعضهما [21] ، فلا يعرف من التزمهما معا [22] .
إحداهما : أو [ هو ] كون الفاعل المختار يرجح بلا سبب ، فإن أكثر العقلاء يقولون : إن فساد هذا معلوم بالضرورة ، [23] قطعي غير ضروري .
والثانية : كون القادر المختار يكون فعله مقارنا له لا يحدث شيئا بعد شيء ، فإن هذا أيضا مما يقول العقلاء ، - أو جمهورهم - : إن فساده معلوم بالضرورة ، أو قطعا ، بل جمهور العقلاء يقولون : . إن مفعول الفاعل لا يكون مقارنا له أبدا