قيل : هذا قياس باطل ، وتشبيه فاسد ، وذلك أن هؤلاء [1] إذا قالوا . هذا قالوا : الرب نفسه يفعل شيئا بعد شيء ، أو أن يتكلم بشيء ، وهذا ليس بممتنع ، بل هو جائز في صريح العقل ، فإن غاية ما يقال أن يكون وجود [ الأول ] [2] وانقضاؤه شرطا في الثاني ، كما يكون وجود الوالد شرطا في وجود الولد ، وأن يكون تمام فاعلية الثاني إنما حصلت عند عدم الأول ، ويكون عدم الأول إذا اشترط في الثاني فهو من جنس اشتراط عدم أحد الضدين في وجود الضد الآخر مع أن الفاعل للضد الحادث ليس هو عدم الأول ، فكيف إذا كان هو المعدم للأول .
وإذا قيل : فعله للثاني [3] مشروط بعدم الأول كان من باب اشتراط عدم الضد لوجود ضده ، ثم إن كان الشرط إعدام الأول كان فعله مشروطا بفعله ، والإعدام أمر وجودي ، وأيضا ، فالفاعل عند عدم الضد [ ص: 218 ] المانع يتم كونه مريدا قادرا ، وتلك أمور [4] وجودية ، وهو المقتضي لها إما بنفسه ، أو بما منه ، فلم يحصل موجود إلا منه وعنه .
وأما هؤلاء [5] ، فيقولون : إن الفاعل الأول [ لا ] [6] تقوم به صفة ولا فعل ، بل هو ذات مجردة بسيطة ، وإن الحوادث المختلفة تحدث عنها دائما بلا أمر يحدث منه ، وهذا مخالفة لصريح المعقول سواء سموه [7] موجبا [8] بالذات أو فاعلا بالاختيار ، فإن تغير المعلولات واختلافها [9] بدون تغير العلة ، واختلافها أمر مخالف لصريح المعقول ، وفعل الفاعل المختار لأمور حادثة مختلفة بدون ما يقوم به من الإرادة ، بل من الإرادات المتنوعة [10] مخالف لصريح المعقول .
وهؤلاء يقولون : مبدأ الحوادث كلها حركة الفلك ، وليس فوقه أمور حادثة توجب حركته مع أن حركات الفلك تحدث شيئا بعد شيء بلا أسباب حادثة تحدثها ، وحركات الأفلاك [11] هي الأسباب لجميع الحوادث عندهم ، فإذا لم يكن لها محدث كان حقيقة قولهم أنه ليس لشيء من الحوادث محدث ، وإن كان للفلك عندهم نفس ناطقة [12] ، [ ص: 219 ] فحقيقة قولهم في جميع الحوادث من جنس قول القدرية في فعل الحيوان .
ولهذا اضطر [13] في هذا الموضع إلى جعل ابن سينا كما قد الحركة ليست شيئا يحدث شيئا بعد شيء ، بل هو أمر واحد لم يزل موجودا ، [14] ذكرنا ألفاظه ، وبينا فسادها ، وأنه إنما قال ذلك لئلا يلزمه أنه [15] يحدث عن العلة التامة حادث بعد حادث ، فخالف صريح العقل ، والحس في حدوث الحركة شيئا بعد شيء ليسلم له ما ادعاه من أن رب العالمين لم يحدث شيئا ; لأنه عنده علة تامة ، وقد اعترف حذاقهم بفساد قولهم .