وهذا التقدير الذي نريد أن نتكلم عليه ، وهو تقدير ، وعلى هذا القول فيمتنع حدوث حادث بلا سبب حادث بالضرورة ، واتفاق العقلاء فيما نعلم ; لأن ذلك ترجيح لأحد طرفي الممكن بلا مرجح تام مع إمكان المرجح التام ، وحدوث الحوادث بلا سبب حادث مع إمكان حدوث السبب الحادث دائما . إمكان دوام الحوادث وتسلسلها وإمكان حوادث لا أول لها
وهذا لم يقله أحد من العقلاء [ فيما نعلم ] [1] ، وهو باطل ; لأن ذلك [2] يقتضي ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح ، وذلك لأنه إذا كان نسبة الحادث المعين إلى جميع الأوقات نسبة واحدة ، ونسبتها إلى قدرة الفاعل القديم وإرادته في جميع الأحوال نسبة واحدة ، والفاعل على حال واحدة لم يزل عليها كان من المعلوم بالضرورة أن تخصيص وقت بدون وقت بالإحداث ترجيح [3] لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح .
وأيضا فإذا قيل : إن هذا جائز ، ونحن نتكلم على تقدير جواز دوام الحوادث جاز أن يريد حادثا بعد حادث لا إلى أول لا يقتضي [4] أن يريد حادثا بعينه في الأزل ; لأن وجود الحادث المعين في الأزل محال [ ص: 233 ] بالضرورة واتفاق العقلاء ، فإن المحدث المعين لا يكون قديما إذ هذا جمع بين النقيضين ، وإنما النزاع في دوام نوع الحوادث لا في قدم حادث معين .
وفي الجملة [5] ، فإذا قيل : بجواز دوام الحوادث ، وأن نوعها قديم [6] لم يقل إن نوعها حادث [7] بعد أن لم يكن ، فإن ما جاز قدمه امتنع عدمه [8] .
والمراد هنا الجواز الخارجي لا مجرد الجواز الذهني الذي هو عدم العلم بالامتناع ، فإن ذلك لا يدل على قدم شيء بخلاف الأول ، وهو العلم بإمكان قدمه ; لأنه إذا جاز قدمه لم يكن إلا لوجوبه بنفسه ، أو لصدوره عن واجب الوجود [9] ، وعلى التقديرين ، فما كان واجبا بنفسه ، أو لازما للواجب بنفسه لزم كونه قديما ، وامتنع كونه معدوما ; لأن الواجب بنفسه يجب قدمه ، ويمتنع عدمه ، ويمتنع وجود الملزوم بدون اللازم ، فيجب قدم لوازمه ، ويمتنع عدمها .
وإذا قيل [10] : بجواز دوام الحوادث جاز قدم نوعها ، وإنما يجوز قدمها ، [ ويمتنع عدم نوعها ] [11] إذا كان له موجب أزلي ، وحينئذ فيجب قدم نوعها ، ( 8 ويمتنع عدم نوعها 8 ) [12] ، فلا يجب أن يكون بعض العالم أزليا ، ثم إنه [ ص: 234 ] يحدث فيه الحوادث مع القول بجواز دوامها ، بل يمتنع ذلك ، كما تقدم ، وهذه كلها مقدمات بينة لمن تدبرها وفهمها .
فتبين أنه لو كان شيء من العالم أزليا قديما للزم أن يكون فاعله موجبا بالذات ، ولو كان فاعل العالم موجبا بالذات لم يحدث في العالم شيء من الحوادث ، والحوادث فيه مشهودة [13] ، فامتنع أن يكون فاعل ( 2 العالم موجبا بذاته ، فامتنع أن يكون 2 ) [14] العالم قديما ، كما قاله أولئك [15] الدهرية ، بل ويمتنع أيضا أن يكون المعين الذي هو مفعول الفاعل أزليا ، لا سيما مع العلم بأنه فاعل باختياره ، فيمتنع أن يكون في العالم شيء أزلي على هذا التقدير الذي هو تقدير إمكان الحوادث ودوامها وامتناع صدور الحوادث بلا سبب حادث .
وإذا قيل : إن فاعل العالم [16] قادر مختار - كما هو مذهب المسلمين ، وسائر أهل الملل ، وأساطين الفلاسفة الذين كانوا قبل أرسطو [17] - فإنه لا بد أن يكون الفاعل المبدع مريدا لمفعولاته حين فعله لها ، كما قال تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ سورة النحل : 40 ] .
ولا يكفي وجود إرادة قديمة تتناول جميع المتجددات بدون تجدد إرادة ذلك الحادث المعين ; لأنه على هذا التقدير يلزم جواز حدوث الحوادث بلا سبب حادث .
[ ص: 235 ] . ونحن نتكلم على التقدير الآخر ، وهو امتناع حدوثها بدون سبب حادث ، وإذا كان على هذا التقدير لا بد من ثبوت الإرادة عند وجود المراد ، ولا بد من إرادة مقارنة للمراد مستلزمة له امتنع أن يكون في الأزل إرادة يقارنها مرادها سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه [18] ، أو كانت [19] خاصة ببعض المفعولات ، فإن مرادها هو مفعول الرب ، وهذه الإرادة هي إرادة أن يفعل ، ومعلوم أن . الشيء الذي يريد الفاعل أن يفعله لا يكون شيئا قديما أزليا لم يزل ، ولا يزال ، بل لا يكون إلا حادثا بعد أن لم يكن