ثم ذكر
الرازي :
( البرهان الثاني
[1] : وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=29620الفعل ممكن الوجود في الأزل لثلاثة أوجه :
أحدها : أنه لو [ لم يكن كذلك ] لكان ممتنعا ، ثم صار ممكنا ، ولكان الممتنع
[2] لذاته قد انقلب ممكنا لذاته
[3] ، وهذا يرفع الأمان
[4] عن القضايا العقلية
[5] .
[ ص: 247 ] . وثانيها : أنه ممكن فيما لا يزال ، فإن كان إمكانه لذاته ، أو لعلة دائمة لزم دوام الإمكان ، وإن كان لعلة حادثة كان باطلا ; لأن الكلام في إمكان حدوث تلك العلة كالكلام في إمكان حدوث غيرها ، فيلزم دوام إمكان
[6] الفعل .
وثالثها : أن امتناع الفعل إن كان لذاته ، أو لسبب واجب لذاته
[7] لزم دوام الامتناع ، وهو باطل بالحس والضرورة وإجماع العقلاء لوجود الممكنات ، وإن كان لسبب غير واجب امتنع كونه قديما ، فإن ما وجب قدمه امتنع عدمه ، ثم الكلام
[8] فيه كالكلام في الأول ، [ فكونه ممتنعا في الأزل لعلة حادثة ظاهر البطلان ، فإن القديم لا يكون لعلة حادثة ]
[9] ) .
قال
[10] : ( فثبت أنه لا يمكن دعوى امتناع حصول الممكنات في الأزل ، ولا يمكن أن يقال : المؤثر
[11] ما كان يمكن أن يؤثر فيه ، ثم صار يمكن ، فإن القول في امتناع التأثير وإمكانه كالقول في امتناع وجود الأثر وإمكانه ) .
قال
[12] : فثبت أن
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28712استناد الممكنات إلى المؤثر لا يقتضي تقدم العدم عليها . [ ص: 248 ] . قال
[13] : ( وعلى هذه الطريقة إشكال ; لأنا نقول : ( الحادث ) إذا اعتبرناه من حيث كونه مسبوقا بالعدم ، فهو مع هذا الشرط لا يمكن أن يقال : بأن إمكانه يتخصص بوقت دون وقت لما ذكرتموه من الأدلة ، فإذن
[14] إمكانه ثابت دائما ، ثم لا يلزم من دوام إمكانه خروجه عن الحدوث ; لأنا لما أخذناه من حيث كونه مسبوقا بالعدم كانت مسبوقيته بالعدم جزءا ذاتيا له ، والجزء الذاتي لا يرفع ، وإذا لم يلزم من إمكان حدوث الحادث من حيث إنه حادث خروجه عن كونه حادثا ، فقد بطلت هذه الحجة ) .
قال
[15] : ( فهذا شك لا بد من حله ) .
قلت : فيقال :
[16] هذا الشك هو المعارضة التي اعتمد عليها في كتبه الكلامية ( كالأربعين )
[17] ، وغيره ، وعليها اعتمد
الآمدي في ( دقائق الحقائق ) ، وغيره
[18] ، وهي باطلة لوجهين : أحدهما : أنه ليس فيها جواب عن حجتهم ، بل هي معارضة محضة ، الثاني : أن يقال : قوله ( الحادث )
[ ص: 249 ] إذا ( 1 اعتبر من حيث هو حادث أتعني به إذا قدر أن الحوادث كلها لها أول ، فإذا 1 )
[19] اعتبر مع ذلك إمكانها ، فلا أول له ، أم تعني به أن كل حادث تعتبره إذا اعتبر إمكانه ؟ .
فإن عنيت الأول قيل لك
[20] : لا نسلم إمكان هذا التقدير ، فإنك قدمت أنه لا بد لكل حادث من أول وجملة الحوادث مسبوقة بالعدم وأن لا يكون الفاعل أحدث شيئا ثم أحدث ، وقدرت [ مع ]
[21] ذلك أن إحداثه لم يزل ممكنا ، ونحن لا نسلم إمكان الجمع بين هذين ، فأنت
[22] إنما منعت دوام كونه محدثا في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها ، ومع امتناع ذلك يستحيل أن يكون الإحداث لم يزل ممكنا ، فقد قدرت إمكان دوام الحدوث
[23] مع امتناع دوامه ، وهذا تقدير لاجتماع النقيضين .
وأما إن عنيت بما تقدره حدوث حادث معين ، فلا نسلم أن إمكانه أزلي ، بل حدوث كل حادث معين جاز أن يكون مشروطا بشروط تنافي أزليته ، وهذا هو الواقع ، كما يعلم ذلك في كثير من الحوادث ، فإن حدوث ما هو مخلوق من مادة يمتنع قبل وجود المادة ، [ ولكن الجواب عن هذه الحجة أنها لا تقتضي إمكان قدم شيء بعينه ، كما قد بسط في موضع آخر ، فلا يلزم من ذلك إمكان قدم شيء بعينه من الممكنات ، وهو المطلوب ]
[24] .
ثُمَّ ذَكَرَ
الرَّازِيَّ :
( الْبُرْهَانُ الثَّانِي
[1] : وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29620الْفِعْلَ مُمْكِنُ الْوُجُودِ فِي الْأَزَلِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَوْ [ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ] لَكَانَ مُمْتَنِعًا ، ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا ، وَلَكَانَ الْمُمْتَنِعُ
[2] لِذَاتِهِ قَدِ انْقَلَبَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ
[3] ، وَهَذَا يَرْفَعُ الْأَمَانَ
[4] عَنِ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ
[5] .
[ ص: 247 ] . وَثَانِيهَا : أَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيمَا لَا يَزَالُ ، فَإِنْ كَانَ إِمْكَانُهُ لِذَاتِهِ ، أَوْ لِعِلَّةٍ دَائِمَةٍ لَزِمَ دَوَامُ الْإِمْكَانِ ، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ كَانَ بَاطِلًا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي إِمْكَانِ حُدُوثِ تِلْكَ الْعِلَّةِ كَالْكَلَامِ فِي إِمْكَانِ حُدُوثِ غَيْرِهَا ، فَيَلْزَمُ دَوَامُ إِمْكَانِ
[6] الْفِعْلِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّ امْتِنَاعَ الْفِعْلِ إِنْ كَانَ لِذَاتِهِ ، أَوْ لِسَبَبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ
[7] لَزِمَ دَوَامُ الِامْتِنَاعِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْحِسِّ وَالضَّرُورَةِ وَإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ لِوُجُودِ الْمُمْكِنَاتِ ، وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ غَيْرِ وَاجِبٍ امْتَنَعَ كَوْنُهُ قَدِيمًا ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ ، ثُمَّ الْكَلَامُ
[8] فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ ، [ فَكَوْنُهُ مُمْتَنِعًا فِي الْأَزَلِ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ لِعِلَّةٍ حَادِثَةٍ ]
[9] ) .
قَالَ
[10] : ( فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَى امْتِنَاعِ حُصُولِ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْأَزَلِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُؤَثِّرُ
[11] مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ ، ثُمَّ صَارَ يُمْكِنُ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي امْتِنَاعِ التَّأْثِيرِ وَإِمْكَانِهِ كَالْقَوْلِ فِي امْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَثَرِ وَإِمْكَانِهِ ) .
قَالَ
[12] : فَثَبَتَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29620_28712اسْتِنَادَ الْمُمْكِنَاتِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْعَدَمَ عَلَيْهَا . [ ص: 248 ] . قَالَ
[13] : ( وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِشْكَالٌ ; لِأَنَّا نَقُولُ : ( الْحَادِثُ ) إِذَا اعْتَبَرْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ ، فَهُوَ مَعَ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : بِأَنَّ إِمْكَانَهُ يَتَخَصَّصُ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، فَإِذَنْ
[14] إِمْكَانُهُ ثَابِتٌ دَائِمًا ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِ إِمْكَانِهِ خُرُوجُهُ عَنِ الْحُدُوثِ ; لِأَنَّا لَمَّا أَخَذْنَاهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ كَانَتْ مَسْبُوقِيَّتِهِ بِالْعَدَمِ جُزْءًا ذَاتِيًّا لَهُ ، وَالْجُزْءُ الذَّاتِيُّ لَا يُرْفَعُ ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِمْكَانِ حُدُوثِ الْحَادِثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ حَادِثٌ خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حَادِثًا ، فَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ ) .
قَالَ
[15] : ( فَهَذَا شَكٌّ لَا بُدَّ مِنْ حَلِّهِ ) .
قُلْتُ : فَيُقَالُ :
[16] هَذَا الشَّكُّ هُوَ الْمُعَارَضَةُ الَّتِي اعْتَمَدَ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِ الْكَلَامِيَّةِ ( كَالْأَرْبَعِينَ )
[17] ، وَغَيْرِهِ ، وَعَلَيْهَا اعْتَمَدَ
الْآمِدِيُّ فِي ( دَقَائِقِ الْحَقَائِقِ ) ، وَغَيْرِهِ
[18] ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَوَابٌ عَنْ حُجَّتِهِمْ ، بَلْ هِيَ مُعَارَضَةٌ مَحْضَةٌ ، الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ ( الْحَادِثُ )
[ ص: 249 ] إِذَا ( 1 اعْتُبِرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَادِثٌ أَتَعْنِي بِهِ إِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَهَا أَوَّلٌ ، فَإِذَا 1 )
[19] اعْتُبِرَ مَعَ ذَلِكَ إِمْكَانُهَا ، فَلَا أَوَّلَ لَهُ ، أَمْ تَعْنِي بِهِ أَنَّ كُلَّ حَادِثٍ تَعْتَبِرُهُ إِذَا اعْتُبِرَ إِمْكَانُهُ ؟ .
فَإِنْ عَنَيْتَ الْأَوَّلَ قِيلَ لَكَ
[20] : لَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ هَذَا التَّقْدِيرِ ، فَإِنَّكَ قَدَّمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ حَادِثٍ مِنْ أَوَّلٍ وَجُمْلَةَ الْحَوَادِثِ مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْفَاعِلُ أَحْدَثَ شَيْئًا ثُمَّ أُحْدِثَ ، وَقَدَّرْتَ [ مَعَ ]
[21] ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَهُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا ، وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ ، فَأَنْتَ
[22] إِنَّمَا مَنَعْتَ دَوَامَ كَوْنِهِ مُحْدَثًا فِي الْأَزَلِ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا ، وَمَعَ امْتِنَاعِ ذَلِكَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْإِحْدَاثُ لَمْ يَزَلْ مُمْكِنًا ، فَقَدْ قَدَّرْتَ إِمْكَانَ دَوَامِ الْحُدُوثِ
[23] مَعَ امْتِنَاعِ دَوَامِهِ ، وَهَذَا تَقْدِيرٌ لِاجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ .
وَأَمَّا إِنْ عَنَيْتَ بِمَا تُقَدِّرُهُ حُدُوثَ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِمْكَانَهُ أَزَلِيٌّ ، بَلْ حُدُوثُ كُلِّ حَادِثٍ مُعَيَّنٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ تُنَافِي أَزَلِيَّتَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ ، كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحَوَادِثِ ، فَإِنَّ حُدُوثَ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَادَّةٍ يَمْتَنِعُ قَبْلَ وُجُودِ الْمَادَّةِ ، [ وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي إِمْكَانَ قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمْكَانُ قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ]
[24] .