وإذا قيل : ، أو هو مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها في الأزل ، لكن تلك [ الإرادة الأزلية المقارنة ] هو علة تامة لأصول العالم دون حوادثه [1] لمرادها إنما تعلقت بأصول العالم دون حوادثه .
قيل لهم هذا باطل من وجوه : منها أن مقارنة المفعول المعين لفاعله - لا سيما مقارنته له أزلا [ ص: 325 ] وأبدا ممتنع في صرائح [2] العقول ، بل وفي بداية [3] العقول بعد التصور التام .
وإذا قالوا : العلوم الضرورية لا يجتمع على جحدها طائفة من العقلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب 0
قيل لهم : لا جرم هذا القول لم يتفق عليه طائفة من العقلاء من غير تواطئ ، بل جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ينكرونه غاية الإنكار ، وإنما تقوله طائفة واحدة بعضهم عن بعض [4] ، على سبيل مواطأة بعضهم لبعض ، ( * وتلقي بعضهم عن بعض ، ومع المواطأة تجوز المواطأة * ) [5] على تعمد الكذب وعلى الأمور المشتبهة كالمذاهب الباطلة التي يعلم فسادها بالضرورة ، وقد توارثها طائفة تلقاها بعضهم عن بعض ، بخلاف الأقوال التي يقر بها الناس عن [6] غير مواطأة ، فتلك لا يكون منها ما يعلم فساده ببديهة العقل . ولهذا كان في عامة أقوال الكفار وأهل البدع من المشركين والنصارى والرافضة والجهمية وغيرهم ما يعلم فساده بضرورة العقل ، ولكن قاله طائفة تلقاه بعضهم عن بعض .
ومنها أن يقال : لو كان هذا حقا لامتنع حدوث الحوادث في العالم جملة ، ولم يكن للحوادث محدث أصلا ، وهذا من أظهر ما يعلم فساده بضرورة العقل ، فإن العلة إذا كانت تامة أزلية قارنها معلولها ، وكان ما [ ص: 326 ] يحدث غير [ معلولها ؛ لأنه لو كان معلولا لها ] لكان قد تأخر المعلول [7] أو بعض المعلول عن علته التامة ، لا يجوز أن يتأخر عنها لا معلولها ولا بعض معلولها ، فكل ما حدث لا يحدث عن علة تامة أزلية ، وواجب الوجود عندهم علة تامة أزلية ، فيلزم أن لا يحدث عنه حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة والعلة التامة [8] .
وما يعتذرون به في هذا المكان من قولهم : ونحوه من أفسد الأقوال ، فإن هذا إنما يمكن أن يقال فيما يكون علة وجوده غير علة استعداده وقبوله إنما تأخرت الحوادث لتأخر الاستعداد [9] ، كما يحدث عن الشمس ، فإنها تارة تلين وترطب كما تلين الثمار بعد يبسها [10] بسبب ما يحصل فيها من الرطوبة ، فتجتمع الرطوبة المائية والسخونة الشمسية فتنضج الثمار وتلين ، وتارة تجفف وتيبس كما يحصل للثمار بعد تناهي نضجها ، فإنه ينقطع عنها الاستمداد من الرطوبة ، فتبقى حرارة تفعل في رطوبة من غير إمداد ، فتجففها كما تجفف الشمس والنار وغيرهما لغير ذلك من الأجسام الرطبة .
والمقصود أنه في مثل ذلك قد يتأخر فعل الفاعل لعدم استعداد القابل ، ولو قدر أن ما يدعونه من العقل الفعال له حقيقة لكان تأخر فيضه حتى تستعد القوابل من هذا الباب . وأما واجب الوجود الفاعل لكل [ ص: 327 ] ما سواه الذي لا يتوقف فعله على أمر آخر من غيره - لا إعداد [11] ولا إمداد ولا قبول ولا غير ذلك ، بل نفسه هي المستلزمة لفعله - فلو قدر أنه علة تامة أزلية لوجب أن يقارنه معلوله كله ، ولا يتأخر عنه شيء من مفعولاته [12] ، وإذا تأخر شيء من مفعولاته ولو كان مفعولا بواسطة ، علم أنه لم يكن علة تامة له في الأزل ، وأنه صار علة بعد أن لم يكن
وإذا قيل 0 الحركة الفلكية هي سبب حدوث الحوادث
قيل : وهذا أيضا مما يعلم بطلانه ، فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون الموجب لها [13] علة تامة أزلية ، فإن هذه يقارنها معلولها أزلا وأبدا ، والحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون مقارنة لعلتها في الأزل ، فعلم أن الموجب لحدوثها ليس علة تامة أزلية ، بل لا بد أن يكون الرب متصفا بأفعال تقوم به شيئا بعد شيء ، بسبب [14] ما يقوم به ، يحدث عنه ما يحدث ، مثل مشيئته القائمة بذاته وكلماته القائمة بذاته وأفعاله الاختيارية القائمة بذاته .
ومنها أن الحوادث بعد ذلك لا بد لها من محدث ، ويمتنع أن يحدثها غيره ؛ لأنه لا رب غيره ، ولأن القول فيه في ذلك الحدث كالقول فيه : إما أن يكون علة تامة في الأزل ، وإما أن لا يكون ، ويعود التقسيم .
وإذا قالوا : إنما تأخر الثاني لتأخر حدوث القوابل والشروط التي بها قبل الفيض 0
[ ص: 328 ] قيل لهم : هذا يعقل فيما إذا [15] كان حدوث القوابل من غيره ، كما في حدوث الشعاع عن الشمس ، وكما يقولونه في العقل الفعال . وأما إذا كان هو الفاعل للقابل والمقبول ، والشرط والمشروط ، وهو علة تامة أزلية لما يصدر عنه [16] وجب مقارنة معلوله كله له ، ولم يجز أن يتأخر عنه شيء ، فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن من غير إحداثه لشيء ، وإحداثه لشيء [17] مع كونه [18] علة تامة أزلية ممتنع ، وكونه علة لنوع الحوادث مع عدم حدوث فعل يقوم به ممتنع .
ولأن صدور العالم عن فاعلين ممتنع ، سواء كانا مشتركين في جميعه ، أو كان هذا فاعلا لبعضه وهذا فاعلا لبعضه ، كما قد بسط في غير هذا الموضع [19] وهذا مما لا نزاع فيه ، فإنه ، ولا قال أحد من العقلاء : إن أصول العالم القديمة صدرت عن واحد ، وحوادثه صدرت عن آخر ، فإن العالم لا يخلو من الحوادث لم يثبت أحد من العقلاء أن العالم صدر عن اثنين متكافئين في الصفات والأفعال [20] ، ممتنع ، ولو كان الفاعل للوازمه غيره لزم أن لا يتم فعل واحد منهما إلا بالآخر ، فيلزم الدور في الفاعلين ، وكون كل [ واحد ] وفعل الملزوم بدون لازمه [21] من الربين لا يصير ربا إلا بالآخر ، ولا يصير قادرا إلا بالآخر ، ولا يصير فاعلا إلا بالآخر ، فلا [ ص: 329 ] يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ، ( 1 ولا يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا 1 ) [22] ، فيمتنع والحال هذه أن يصير واحد منهما قادرا وهذا مبسوط في موضعه .
وذلك مما يبين أنه لا فاعل للحوادث إلا هو ، وحينئذ فإن حدثت عنه بدون سبب حادث لزم حدوث الحادث بلا سبب حادث ، وهذا إذا جاز جاز حدوث العالم كله بلا سبب [23] حادث .
وأيضا : فإنه يلزم أن يكون العالم قديما أزليا خاليا عن شيء من الحوادث ، وأن الحوادث حدثت فيه بعد ذلك بدون سبب حادث ، وهذا ممتنع بالاتفاق والبرهان لوجوه [24] كثيرة مثل اقتضائه عدم القديم [25] الواجب بنفسه أو بغيره ، فإنه إذا قدر معلول قديم أزلي على حال من الأحوال ، ثم حدثت [26] فيه الحوادث فلا بد أن يتغير من صفة إلى صفة [27] : يزول ما كان موجودا ، ويحدث ما لم يكن موجودا ، وزوال ما كان موجودا ممتنع ، فإن القديم إنما يكون قديما إذا كان واجبا بنفسه أو بغيره ، ( * فإن [28] ما كان واجبا بنفسه أو بغيره يمتنع عدمه ، ( 8 وما كان قديما يمتنع عدمه 8 ) [29] أيضا ، بل القديم لا يكون قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه [ ص: 330 ] أو بغيره ، فما علم أنه كان قديما واجبا بنفسه أو بغيره * ) [30] يكون العلم بامتناع عدمه أوكد وأوكد .
والعالم إذا كان شيء منه قديما أزليا لا حادث فيه ، ثم حدث فيه حادث فقد غيره من الحال القديمة الأزلية الواجبة بنفسها أو بغيرها إلى حال أخرى تخالفها ، وهذا مع أنه ممتنع ، فإذا كان هذا بدون سبب حادث كان ممتنعا من هذا الوجه ومن هذا الوجه .
وأيضا : ، فإن الأجسام لا تخلو عن مقارنة الحوادث : الحركة وغيرها ، والعالم ليس فيه إلا ما هو قائم بنفسه أو بغيره بلا نزاع بين العقلاء ، وتلك الأعيان لا تخلو عن مقارنة الحوادث ، فإنها لو خلت عنها ثم قارنتها للزم حدوث الحوادث بلا سبب ، وهذا باطل ، وإن لم يكن هذا باطلا جاز حدوث الحوادث بلا سبب ، فبطل القول بقدم العالم . فالعالم لا يتصور انفكاكه عن مقارنة الحوادث
ثم كثير من النظار يقول : ليس في العالم إلا جسم أو عرض . وهؤلاء منهم من يفسر الجسم بما يشار إليه ، ويمنع [31] كون كل جسم مركبا من الجواهر المفردة [32] أو من المادة والصورة ، فلا يلزمهم من الإشكال ما يتوجه على غيرهم .
وإن قدر أن فيه ما يخرج عن ذلك كما يذكره من يثبت العقول [ ص: 331 ] والنفوس ، ويقول : إنها ليست أجساما ، فالنفوس لا تفارق الأجسام ، بل هي مقارنة لها مدبرة لها [33] فلا تفارق الحوادث .
وأيضا : فالنفوس لا تنفك عن تصورات وإرادات حادثة ، فهي دائما مقارنة للحوادث ، والعقول علة لذلك مستلزمة لمعلولها لا يتقدم عليها [34] بالزمان ، فيمتنع أن يكون في العالم ما يسبق الحوادث ، فيمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا سابقا للحوادث ، وحينئذ فالمبدع لشيء منه يمتنع أن يبدعه بدون إبداع لوازمه ، ولوازمه يمتنع وجودها في الأزل ، فيمتنع وجود شيء منه في الأزل .
فإذا قيل : فهو علة تامة أزلية للفلك مع حركته ، لزم أن يكون علة أزلية تامة للفلك مع حركته ، فتكون حركته أزلية ، والحركة لا توجد إلا شيئا فشيئا ، فيمتنع أن يكون جميع حركته أزلية [35] .
وإذا [36] قيل : هو علة تامة أزلية للفلك دون حركته ، احتاجت حركته إلى مبدع آخر ، ولا مبدع [37] غيره .
وإن قيل : هو علة للحركة [38] شيئا بعد شيء ، لم يكن علة تامة للحركة في الأزل ، لكن يصير علة تامة لشيء منها بحسب وجوده ، فتكون عليته وفاعليته وإرادته حادثة بعد أن لم تكن ، فيمتنع أن يكون علة تامة في [ ص: 332 ] الأزل ، وهذا القول [ ظاهر ] [39] ، لا ينازع فيه من فهمه ، وهو مما يبين امتناع كونه علة تامة أزلية لكل موجود ، وامتناع كونه علة تامة للفلك مع حركته الدائمة .
وهم لا يقولون : [40] إنه ، بل يقولون : إنه في الأزل علة لما كان قديما بعينه كالأفلاك ، وهو دائما علة لنوع الحوادث ، ويصير علة تامة للحادث المعين بعد أن لم يكن علة تامة له ، فهذا حقيقة قولهم . في الأزل علة لكل موجود
فيقال لهم : كونه يصير علة تامة لشيء بعد أن لم يكن علة له من غير أمر يحدث منه ممتنع لذاته ؛ لأنه لا محدث للحوادث سواه ، فيمتنع أن غيره يحدث فاعليته ، وكونه علة فلا يحدث كونه فاعلا للمعين إلا هو ، فيلزم أن يكون هو المحدث ؛ لكونه علة للمعين وفاعلا له ، وهذه الفاعلية كانت بعد أن لم تكن ، فيمتنع أن تكون صدرت عن علة تامة أزلية ، لأن العلة الأزلية يقارنها معلولها .
فتبين أنه يمتنع أن يصير فاعلا لشيء بعد أن لم يكن ، مع القول بأنه لم يزل علة تامة أزلية ، وأنه لا بد أن يقوم به من الأحوال ما يوجب كونه فاعلا لما يحدث عنه من الحوادث ، سواء أحدثت [41] بواسطة أم بغير واسطة .
وأيضا : فإذا قدر أنه - كما يقولون - حاله قبل أن يحدث المعين ومع [ ص: 333 ] إحداث المعين وبعد إحداث المعين سواء امتنع إحداث المعين ، فيمتنع أن يحدث شيئا [42] .
وأيضا : فلم يكن إحداثه للأول بأولى من إحداثه للثاني ، ولا تخصيص ( * الأول بقدره ووصفه بأولى من الثاني إذا كان الفاعل لم يكن منه قط سبب يوجب التخصيص * ) [43] ، لا بقدر ولا بوصف [44] ولا غير ذلك .
وهم أنكروا على من قال من النظار : إنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا [45] ، [ وقالوا : العقل الصريح يعلم أن من فعل بعد أن لم يكن فاعلا ] [46] فلا بد أن يتجدد له : إما قدرة ، وإما إرادة ، وإما علم ، وإما زوال مانع ، وإما سبب ما .
فيقال لهم : والعقل الصريح يعلم أن من فعل هذا الحادث بعد أن لم يكن فاعلا له فلا بد أن يتجدد له سبب اقتضى فعله ، فأنتم أنكرتم على غيركم ابتداء الفعل بلا سبب ، والتزمتم دوام المفعولات الحادثة بلا سبب ، فكان ما التزمتموه من حدوث الحوادث بلا سبب أعظم مما نفيتموه ، بل قولكم مستلزم أنه لا [47] فاعل للحوادث ابتداء ، بل تحدث بلا فاعل ، فإن الموجب للحوادث عندكم هو حركة الفلك [48] ، وحركة الفلك حركة نفسانية تتحرك بما يحدث لها من التصورات والإرادات المتعاقبة ، وإن [ ص: 334 ] كانت تابعة لتصور كلي وإرادة كلية ، ثم تلك التصورات والإرادات والحركات تحدث بلا محدث [ لها ] [49] أصلا على قولكم ؛ لأن واجب الوجود عندكم ليس فيه ما يوجب فعلا حادثا أصلا ، بل حاله قبل الحادث وبعده ومعه سواء ، وكون الفاعل يفعل الأمور الحادثة المختلفة مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء ( 2 أبعد من كونه يحدث حادثا مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء 2 ) [50] .