الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وإذا قيل : هو علة تامة لأصول العالم دون حوادثه ، أو هو مريد بإرادة أزلية مستلزمة لاقتران مرادها بها في الأزل ، لكن تلك [ الإرادة الأزلية المقارنة ] [1] لمرادها إنما تعلقت بأصول العالم دون حوادثه .

                  قيل لهم هذا باطل من وجوه : منها أن مقارنة المفعول المعين لفاعله - لا سيما مقارنته له أزلا [ ص: 325 ] وأبدا ممتنع في صرائح [2] العقول ، بل وفي بداية [3] العقول بعد التصور التام .

                  وإذا قالوا : العلوم الضرورية لا يجتمع على جحدها طائفة من العقلاء الذين لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب 0

                  قيل لهم : لا جرم هذا القول لم يتفق عليه طائفة من العقلاء من غير تواطئ ، بل جماهير العقلاء من الأولين والآخرين ينكرونه غاية الإنكار ، وإنما تقوله طائفة واحدة بعضهم عن بعض [4] ، على سبيل مواطأة بعضهم لبعض ، ( * وتلقي بعضهم عن بعض ، ومع المواطأة تجوز المواطأة * ) [5] على تعمد الكذب وعلى الأمور المشتبهة كالمذاهب الباطلة التي يعلم فسادها بالضرورة ، وقد توارثها طائفة تلقاها بعضهم عن بعض ، بخلاف الأقوال التي يقر بها الناس عن [6] غير مواطأة ، فتلك لا يكون منها ما يعلم فساده ببديهة العقل . ولهذا كان في عامة أقوال الكفار وأهل البدع من المشركين والنصارى والرافضة والجهمية وغيرهم ما يعلم فساده بضرورة العقل ، ولكن قاله طائفة تلقاه بعضهم عن بعض .

                  ومنها أن يقال : لو كان هذا حقا لامتنع حدوث الحوادث في العالم جملة ، ولم يكن للحوادث محدث أصلا ، وهذا من أظهر ما يعلم فساده بضرورة العقل ، فإن العلة إذا كانت تامة أزلية قارنها معلولها ، وكان ما [ ص: 326 ] يحدث غير [ معلولها ؛ لأنه لو كان معلولا لها ] لكان قد تأخر المعلول [7] أو بعض المعلول عن علته التامة ، والعلة التامة لا يجوز أن يتأخر عنها لا معلولها ولا بعض معلولها ، فكل ما حدث لا يحدث عن علة تامة أزلية ، وواجب الوجود عندهم علة تامة أزلية ، فيلزم أن لا يحدث عنه حادث لا بواسطة ولا بغير واسطة [8] .

                  وما يعتذرون به في هذا المكان من قولهم : إنما تأخرت الحوادث لتأخر الاستعداد ونحوه من أفسد الأقوال ، فإن هذا إنما يمكن أن يقال فيما يكون علة وجوده غير علة استعداده وقبوله[9] ، كما يحدث عن الشمس ، فإنها تارة تلين وترطب كما تلين الثمار بعد يبسها [10] بسبب ما يحصل فيها من الرطوبة ، فتجتمع الرطوبة المائية والسخونة الشمسية فتنضج الثمار وتلين ، وتارة تجفف وتيبس كما يحصل للثمار بعد تناهي نضجها ، فإنه ينقطع عنها الاستمداد من الرطوبة ، فتبقى حرارة تفعل في رطوبة من غير إمداد ، فتجففها كما تجفف الشمس والنار وغيرهما لغير ذلك من الأجسام الرطبة .

                  والمقصود أنه في مثل ذلك قد يتأخر فعل الفاعل لعدم استعداد القابل ، ولو قدر أن ما يدعونه من العقل الفعال له حقيقة لكان تأخر فيضه حتى تستعد القوابل من هذا الباب . وأما واجب الوجود الفاعل لكل [ ص: 327 ] ما سواه الذي لا يتوقف فعله على أمر آخر من غيره - لا إعداد [11] ولا إمداد ولا قبول ولا غير ذلك ، بل نفسه هي المستلزمة لفعله - فلو قدر أنه علة تامة أزلية لوجب أن يقارنه معلوله كله ، ولا يتأخر عنه شيء من مفعولاته [12] ، وإذا تأخر شيء من مفعولاته ولو كان مفعولا بواسطة ، علم أنه لم يكن علة تامة له في الأزل ، وأنه صار علة بعد أن لم يكن

                  وإذا قيل الحركة الفلكية هي سبب حدوث الحوادث 0

                  قيل : وهذا أيضا مما يعلم بطلانه ، فإن الحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن يكون الموجب لها [13] علة تامة أزلية ، فإن هذه يقارنها معلولها أزلا وأبدا ، والحركة الحادثة شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون مقارنة لعلتها في الأزل ، فعلم أن الموجب لحدوثها ليس علة تامة أزلية ، بل لا بد أن يكون الرب متصفا بأفعال تقوم به شيئا بعد شيء ، بسبب [14] ما يقوم به ، يحدث عنه ما يحدث ، مثل مشيئته القائمة بذاته وكلماته القائمة بذاته وأفعاله الاختيارية القائمة بذاته .

                  ومنها أن الحوادث بعد ذلك لا بد لها من محدث ، ويمتنع أن يحدثها غيره ؛ لأنه لا رب غيره ، ولأن القول فيه في ذلك الحدث كالقول فيه : إما أن يكون علة تامة في الأزل ، وإما أن لا يكون ، ويعود التقسيم .

                  وإذا قالوا : إنما تأخر الثاني لتأخر حدوث القوابل والشروط التي بها قبل الفيض 0

                  [ ص: 328 ] قيل لهم : هذا يعقل فيما إذا [15] كان حدوث القوابل من غيره ، كما في حدوث الشعاع عن الشمس ، وكما يقولونه في العقل الفعال . وأما إذا كان هو الفاعل للقابل والمقبول ، والشرط والمشروط ، وهو علة تامة أزلية لما يصدر عنه [16] وجب مقارنة معلوله كله له ، ولم يجز أن يتأخر عنه شيء ، فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن من غير إحداثه لشيء ، وإحداثه لشيء [17] مع كونه [18] علة تامة أزلية ممتنع ، وكونه علة لنوع الحوادث مع عدم حدوث فعل يقوم به ممتنع .

                  ولأن صدور العالم عن فاعلين ممتنع ، سواء كانا مشتركين في جميعه ، أو كان هذا فاعلا لبعضه وهذا فاعلا لبعضه ، كما قد بسط في غير هذا الموضع [19] وهذا مما لا نزاع فيه ، فإنه لم يثبت أحد من العقلاء أن العالم صدر عن اثنين متكافئين في الصفات والأفعال ، ولا قال أحد من العقلاء : إن أصول العالم القديمة صدرت عن واحد ، وحوادثه صدرت عن آخر ، فإن العالم لا يخلو من الحوادث [20] ، وفعل الملزوم بدون لازمه ممتنع ، ولو كان الفاعل للوازمه غيره لزم أن لا يتم فعل واحد منهما إلا بالآخر ، فيلزم الدور في الفاعلين ، وكون كل [ واحد ] [21] من الربين لا يصير ربا إلا بالآخر ، ولا يصير قادرا إلا بالآخر ، ولا يصير فاعلا إلا بالآخر ، فلا [ ص: 329 ] يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا ، ( 1 ولا يصير هذا قادرا حتى يجعله الآخر قادرا 1 ) [22] ، فيمتنع والحال هذه أن يصير واحد منهما قادرا وهذا مبسوط في موضعه .

                  وذلك مما يبين أنه لا فاعل للحوادث إلا هو ، وحينئذ فإن حدثت عنه بدون سبب حادث لزم حدوث الحادث بلا سبب حادث ، وهذا إذا جاز جاز حدوث العالم كله بلا سبب [23] حادث .

                  وأيضا : فإنه يلزم أن يكون العالم قديما أزليا خاليا عن شيء من الحوادث ، وأن الحوادث حدثت فيه بعد ذلك بدون سبب حادث ، وهذا ممتنع بالاتفاق والبرهان لوجوه [24] كثيرة مثل اقتضائه عدم القديم [25] الواجب بنفسه أو بغيره ، فإنه إذا قدر معلول قديم أزلي على حال من الأحوال ، ثم حدثت [26] فيه الحوادث فلا بد أن يتغير من صفة إلى صفة [27] : يزول ما كان موجودا ، ويحدث ما لم يكن موجودا ، وزوال ما كان موجودا ممتنع ، فإن القديم إنما يكون قديما إذا كان واجبا بنفسه أو بغيره ، ( * فإن [28] ما كان واجبا بنفسه أو بغيره يمتنع عدمه ، ( 8 وما كان قديما يمتنع عدمه 8 ) [29] أيضا ، بل القديم لا يكون قديما إلا إذا كان واجبا بنفسه [ ص: 330 ] أو بغيره ، فما علم أنه كان قديما واجبا بنفسه أو بغيره * ) [30] يكون العلم بامتناع عدمه أوكد وأوكد .

                  والعالم إذا كان شيء منه قديما أزليا لا حادث فيه ، ثم حدث فيه حادث فقد غيره من الحال القديمة الأزلية الواجبة بنفسها أو بغيرها إلى حال أخرى تخالفها ، وهذا مع أنه ممتنع ، فإذا كان هذا بدون سبب حادث كان ممتنعا من هذا الوجه ومن هذا الوجه .

                  وأيضا : فالعالم لا يتصور انفكاكه عن مقارنة الحوادث ، فإن الأجسام لا تخلو عن مقارنة الحوادث : الحركة وغيرها ، والعالم ليس فيه إلا ما هو قائم بنفسه أو بغيره بلا نزاع بين العقلاء ، وتلك الأعيان لا تخلو عن مقارنة الحوادث ، فإنها لو خلت عنها ثم قارنتها للزم حدوث الحوادث بلا سبب ، وهذا باطل ، وإن لم يكن هذا باطلا جاز حدوث الحوادث بلا سبب ، فبطل القول بقدم العالم .

                  ثم كثير من النظار يقول : ليس في العالم إلا جسم أو عرض . وهؤلاء منهم من يفسر الجسم بما يشار إليه ، ويمنع [31] كون كل جسم مركبا من الجواهر المفردة [32] أو من المادة والصورة ، فلا يلزمهم من الإشكال ما يتوجه على غيرهم .

                  وإن قدر أن فيه ما يخرج عن ذلك كما يذكره من يثبت العقول [ ص: 331 ] والنفوس ، ويقول : إنها ليست أجساما ، فالنفوس لا تفارق الأجسام ، بل هي مقارنة لها مدبرة لها [33] فلا تفارق الحوادث .

                  وأيضا : فالنفوس لا تنفك عن تصورات وإرادات حادثة ، فهي دائما مقارنة للحوادث ، والعقول علة لذلك مستلزمة لمعلولها لا يتقدم عليها [34] بالزمان ، فيمتنع أن يكون في العالم ما يسبق الحوادث ، فيمتنع أن يكون شيء منه قديما أزليا سابقا للحوادث ، وحينئذ فالمبدع لشيء منه يمتنع أن يبدعه بدون إبداع لوازمه ، ولوازمه يمتنع وجودها في الأزل ، فيمتنع وجود شيء منه في الأزل .

                  فإذا قيل : فهو علة تامة أزلية للفلك مع حركته ، لزم أن يكون علة أزلية تامة للفلك مع حركته ، فتكون حركته أزلية ، والحركة لا توجد إلا شيئا فشيئا ، فيمتنع أن يكون جميع حركته أزلية [35] .

                  وإذا [36] قيل : هو علة تامة أزلية للفلك دون حركته ، احتاجت حركته إلى مبدع آخر ، ولا مبدع [37] غيره .

                  وإن قيل : هو علة للحركة [38] شيئا بعد شيء ، لم يكن علة تامة للحركة في الأزل ، لكن يصير علة تامة لشيء منها بحسب وجوده ، فتكون عليته وفاعليته وإرادته حادثة بعد أن لم تكن ، فيمتنع أن يكون علة تامة في [ ص: 332 ] الأزل ، وهذا القول [ ظاهر ] [39] ، لا ينازع فيه من فهمه ، وهو مما يبين امتناع كونه علة تامة أزلية لكل موجود ، وامتناع كونه علة تامة للفلك مع حركته الدائمة .

                  وهم لا يقولون : [40] إنه في الأزل علة لكل موجود ، بل يقولون : إنه في الأزل علة لما كان قديما بعينه كالأفلاك ، وهو دائما علة لنوع الحوادث ، ويصير علة تامة للحادث المعين بعد أن لم يكن علة تامة له ، فهذا حقيقة قولهم .

                  فيقال لهم : كونه يصير علة تامة لشيء بعد أن لم يكن علة له من غير أمر يحدث منه ممتنع لذاته ؛ لأنه لا محدث للحوادث سواه ، فيمتنع أن غيره يحدث فاعليته ، وكونه علة فلا يحدث كونه فاعلا للمعين إلا هو ، فيلزم أن يكون هو المحدث ؛ لكونه علة للمعين وفاعلا له ، وهذه الفاعلية كانت بعد أن لم تكن ، فيمتنع أن تكون صدرت عن علة تامة أزلية ، لأن العلة الأزلية يقارنها معلولها .

                  فتبين أنه يمتنع أن يصير فاعلا لشيء بعد أن لم يكن ، مع القول بأنه لم يزل علة تامة أزلية ، وأنه لا بد أن يقوم به من الأحوال ما يوجب كونه فاعلا لما يحدث عنه من الحوادث ، سواء أحدثت [41] بواسطة أم بغير واسطة .

                  وأيضا : فإذا قدر أنه - كما يقولون - حاله قبل أن يحدث المعين ومع [ ص: 333 ] إحداث المعين وبعد إحداث المعين سواء امتنع إحداث المعين ، فيمتنع أن يحدث شيئا [42] .

                  وأيضا : فلم يكن إحداثه للأول بأولى من إحداثه للثاني ، ولا تخصيص ( * الأول بقدره ووصفه بأولى من الثاني إذا كان الفاعل لم يكن منه قط سبب يوجب التخصيص * ) [43] ، لا بقدر ولا بوصف [44] ولا غير ذلك .

                  وهم أنكروا على من قال من النظار : إنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا [45] ، [ وقالوا : العقل الصريح يعلم أن من فعل بعد أن لم يكن فاعلا ] [46] فلا بد أن يتجدد له : إما قدرة ، وإما إرادة ، وإما علم ، وإما زوال مانع ، وإما سبب ما .

                  فيقال لهم : والعقل الصريح يعلم أن من فعل هذا الحادث بعد أن لم يكن فاعلا له فلا بد أن يتجدد له سبب اقتضى فعله ، فأنتم أنكرتم على غيركم ابتداء الفعل بلا سبب ، والتزمتم دوام المفعولات الحادثة بلا سبب ، فكان ما التزمتموه من حدوث الحوادث بلا سبب أعظم مما نفيتموه ، بل قولكم مستلزم أنه لا [47] فاعل للحوادث ابتداء ، بل تحدث بلا فاعل ، فإن الموجب للحوادث عندكم هو حركة الفلك [48] ، وحركة الفلك حركة نفسانية تتحرك بما يحدث لها من التصورات والإرادات المتعاقبة ، وإن [ ص: 334 ] كانت تابعة لتصور كلي وإرادة كلية ، ثم تلك التصورات والإرادات والحركات تحدث بلا محدث [ لها ] [49] أصلا على قولكم ؛ لأن واجب الوجود عندكم ليس فيه ما يوجب فعلا حادثا أصلا ، بل حاله قبل الحادث وبعده ومعه سواء ، وكون الفاعل يفعل الأمور الحادثة المختلفة مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء ( 2 أبعد من كونه يحدث حادثا مع أن حاله قبل وبعد ومع سواء 2 ) [50] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية