وإذا قيل : ، أو يتأخر هو مريد بإرادة أزلية مقارنة لمرادها الذي هو العالم [1] عنها مرادها الذي هو حوادثه ، كان القول كذلك ، فإنه إذا لم يكن له [ إلا ] [2] إرادة أزلية مقارنة لمرادها [3] ، امتنع أن تحدث عنه الحوادث ، لكنه يمتنع أن لا تحدث عنه الحوادث ، فيمتنع أن لا يكون له [ إلا ] [4] إرادة أزلية مقارنة لمرادها ، مع أن الإرادة لمفعولات لازمة للفاعل غير معقول [5] ، بل إنما يعقل في حق الفاعل بإراداته أن يفعل [6] شيئا بعد شيء ، ولهذا لم يقل أحد : إن الرب [7] يتكلم بمشيئته وقدرته ، وإن الكلام المقدور المعين قديم لازم لذاته ، فإذا لم يعقل هذا في المقدور القائم به ، فكيف يعقل في المباين له ؟ .
وإذا قيل : له إرادة أزلية مقارنة للمراد ، وإرادة أخرى حادثة [ مع الحوادث ] [8] .
قيل : فحدوث هذه الإرادة الحادثة : إن كان بتلك الإرادة الأزلية التي يجب مقارنة مرادها لها ، كان ذلك ممتنعا ؛ لأن الثانية حادثة ، فيمتنع أن [ ص: 381 ] تكون مقارنة للقديمة التي قارنها [9] مرادها . وإن كان بدون تلك الإرادة ، لزم حدوث الحوادث بدون إرادته ، وهذا يقتضي جواز حدوث الحوادث بدون إرادته ، فلا يكون فاعلا مختارا ، فإن الإرادة الحادثة إن كانت فعله فقد حدثت بغير إرادة ، وإن لم تكن فعله كان قد حدث حادث بلا فعله ، وهذا ممتنع ، وهو المعتزلة البصريين في قولهم بحدوث إرادة الله بدون إرادة أخرى ، وبقيام إرادته [10] لا في محل . مما أنكره جماهير الناس على
وإن قيل : بل لم تزل تقوم به الإرادات للحوادث ، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الحديث والفلاسفة الذين يقولون : لم يزل يتكلم إذا شاء ، ولم يزل فعالا لما يشاء .
قيل : فعلى هذا التقدير ليس هنا إرادة قديمة لمفعول قديم .
وإن قيل : يجتمع فيه هذا وهذا .
قيل : فهذا ممتنع من جهة امتناع كون المفعول المعين للفاعل - لا سيما المختار - ملازما له ، ومن جهة كون المفعول بالإرادة لا بد وأن تتقدمه الإرادة ، وأن تثبت إلى أن يوجد ، [ بل ] [11] هذا في كل مفعول ، ومن جهة أن ما قامت به الإرادات المتعاقبة كانت مراداته أيضا متعاقبة ، وكذلك أفعاله القائمة بنفسه ، وكانت تلك [12] الإرادات من لوازم نفسه ، [ ص: 382 ] لم يجز أن تكون [13] مرادة لإرادة قديمة ؛ لأنها إن كانت ملزومة لمرادها ، لزم كون الحادث المعين في الأزل ، وإن كان مرادها متأخرا عنها ، كانت تلك الإرادة كافية في حصول المرادات المتأخرة ، فلم يكن هناك ما يقتضي وجودها فلا [ توجد ] [14] ؛ إذ الحادث لا يوجد إلا لوجود مقتضيه التام .
فإن قدر أن الفاعل يريد شيئا بعد شيء ، ويفعل شيئا بعد شيء ، لزم أن يكون هذا من لوازم نفسه ، فتكون [15] نفسه مقتضية لحدوث أفعاله شيئا بعد شيء ، فتكون [16] مفعولاته شيئا بعد شيء بطريق الأولى [ والأحرى ] [17] .
وإذا كان كذلك ، كانت نفسه مقتضية لحدوث كل من هذه الأفعال والمفعولات ، وإذا كانت نفسه مقتضية لذلك ، امتنع مع ذلك أن تكون مقتضية لقدم فعل ومفعول مع إرادتهما المستلزمة لهما ، فإن ذاته تكون مقتضية لأمرين متناقضين ؛ لأن اقتضاءها [18] حدوث أفراد الفعل والمفعول [19] وقدم النوع مناقض [20] لاقتضائها قدم [21] عين الفعل والمفعول [22] .
[ ص: 383 ] وإن قدر أن هذا المفعول غير تلك المفعولات ، فإنه ملزوم لها لا يوجد بدونها ولا توجد إلا به ، فهما متلازمان ، وإذا تلازمت المفعولات ، فتلازم أفعالها وإرادتها أولى ، فيكون كل من القدماء الثلاثة : الإرادة المعينة [23] ، وفعلها ، ومفعولها ، ملزوما لحوادث لا نهاية لها لازما [24] .
وحينئذ فالذات في فعلها للمفعول المعين علة تامة أزلية موجبة له ، وهي في سائر الحوادث ليست علة أزلية تحدث فاعليتها وتمام إيجابها شيئا بعد شيء .
والذات موصوفة بغاية الكمال الممكن ، فإن كان كمالها في أن يكون ما فيها بالقوة هو بالفعل ، من غير اعتبار إمكان ذلك ، ولا كون [25] دوام الإحداث هو أكمل من أن لا يحدث عنها شيء - كما قد يقوله هؤلاء الفلاسفة - فيجب أن لا يحدث عنها شيء ( * أصلا ، ولا يكون في الوجود حادث . وإن كان كمالها في أن تحدث شيئا * ) [26] بعد شيء ؛ لأن ذلك أكمل من أن [ لا ] [27] يمكنها إحداث شيء بعد شيء ، ولأن الفعل صفة كمال ، والفعل لا يعقل إلا على هذا الوجه ، ولأن حدوث الحوادث دائما أكمل من أن لا يحدث شيء ، ولأن هذا الذي بالقوة هو جنس الفعل ، وهذا بالفعل دائما .
وأما كون كل من المفعولات أو شيء من المفعولات أزليا فهذا ليس [ ص: 384 ] بالقوة ، فيمتنع أن يكون بالفعل ، فليس في مقارنة مفعولها المعين لها كمال ، سواء كان ممتنعا أو كان نقصا ينافي الكمال الواجب لها ، لا سيما ومعلوم أن إحداث نوع المفعولات شيئا بعد شيء أكمل من أن يكون منها ما هو مقارن الفاعل [28] أزليا معه [29] .
فعلى التقديرين يجب نفيه عنها ، فلا يكون له [30] مفعول مقارن لها ، فلا يكون في العالم شيء قديم ، وهو المطلوب . وهذا برهان مستقل متلقى [31] من قاعدة الكمال الواجب له وتنزهه [32] عن النقص .
ومما يوضح ذلك أن يقال : من المعلوم بالضرورة أن إحداث مفعول بعد مفعول لا إلى نهاية أكمل من أن لا يفعل إلا مفعولا واحدا لازما لذاته ، إن قدر ذلك ممكنا . وإذا كان ذلك أكمل فهو ممكن [33] ؛ لأن التقدير أن الذات يمكنها أن تفعل شيئا بعد شيء ، بل يجب ذلك لها ، وإذا كان هذا ممكنا - بل هو واجب لها - وجب اتصافها به دون نقيضه الذي هو أنقض منه ، وليس في هذا تعطيل عن الفعل ، بل هو اتصاف بالفعل على أكمل الوجوه .
وبيان هذا أن الفعل المعين ، والمفعول المعين المقارن له أزلا وأبدا ، إما أن يكون ممكنا ، وإما أن يكون ممتنعا . فإن كان ممتنعا ، امتنع قدم [ ص: 385 ] شيء من العالم ، وهو المطلوب . وإن كان ممكنا ، فإما أن يكون هو الأكمل أو لا يكون . فإن كان هو الأكمل ، وجب أن لا يحدث شيء . وإحداثه حينئذ عدول عن الأكمل ، وهو محال . وإن لم يكن هو الأكمل ، فالأكمل نقيضه ، وهو إحداث شيء بعد شيء ، فلا يكون شيء من الأفعال قديما .
وهذا لا يرد عليه إلا سؤالا معلوم الفساد ، وهو أن يقال : ما كان يمكن إلا هذا ، فلا يمكن في الفلك أن يتأخر وجوده ، ولا في الحوادث أن يكون منها شيء قديم .
قيل : إن أردتم امتناع هذا لذاته فهو مكابرة ، فإنه لو قدر قبل الفلك فلك ، وقبله فلك ، لم يكن امتناع هذا بأعظم من امتناع دوام الفلك ، بل إذا كان الواحد من النوع يمكن دوامه ، فدوام النوع أولى .
ولهذا لا يعقل [34] أن يكون واحد من البشر قديما أزليا ، مع امتناع قدم نوعه واحدا بعد واحد . وإن قدرتم أنه ممتنع لأمر يرجع إلى غيره : لوجود مضاد له ، أو لانتفاء حكمة الفاعل ، ونحو ذلك ، فكل أمر ينافي قدم نوع المفعول ، فهو أشد منافاة لقدم عينه . فإن جاز قدم عينه ، فقدم النوع من حدوث الأفراد أجوز ، وإن امتنع هذا الثاني ، فالأول أشد امتناعا ، وكل شيء أوجب حدوث أفراد بعض المفعولات الممكن قدمها ، فهو أيضا موجب لحدوث نظيره .
وهب أنهم يقولون : الحركة لذاتها لا تقبل البقاء ، لكن الحوادث جواهر كثيرة شيئا بعد شيء ، فالعناصر الأربعة إن أمكن أن تكون قديمة [ ص: 386 ] الأعيان ، أمكن إبقاؤها [35] قديمة الصورة ، فلا يجوز استحالتها من حال إلى حال ، وهو خلاف المشاهدة ، وإن لم يمكن قدم أعيانها حصل المطلوب .
وإن قيل : هذا ممكن دون هذا ، كان مكابرة .
وإن قيل : الموجب لاستحالتها حركة الأفلاك .
قيل : من المعلوم بالاضطرار إمكان تحرك الأفلاك [36] دون استحالة العناصر ، كما أمكن تحرك الفلك الأعلى دون استحالة الثاني . وتقدير استحالة الفلك الثاني والثالث وبقائهما [37] ، كتقدير استحالة العناصر وبقائها ، لا يمكن أن يقال : هذا ممكن لذاته [38] دون الآخر . فعلم أن ذلك يرجع إلى أمر خارج يتعلق بالمفعولات المتعلقة بمشيئة الفاعل وحكمته .
وهذا لا ريب فيه ، فإننا لا ننازع أن فعل الشيء يوجب [39] فعل لوازمه ، وينافي وجود أضداده ، وأن الحكمة المطلوبة من فعل شيء ، قد يكون لها شروط وموانع . فالخالق الذي اقتضت حكمته إحداث أنواع الحيوانات والنباتات والمعادن ، اقتضت أن تنقل موادها [40] من حال إلى حال . ولكن المقصود أنه ليس لأحد الجسمين حقيقة اقتضت [ ص: 387 ] اختصاصه بالقدم بحسب ذاته دون الأخرى ، لا سيما ولا حقيقة لوجود شيء سوى الموجود الثابت في الخارج ، فلا اقتضاء لحقيقته قبل وجود حقيقته ، ولكن [41] يعلم ما يريد أن يفعله ، فعلمه وإرادته هو الذي يوجب الاختصاص . الباري [ تعالى ]
فقد تبين أنه إذا كان مقارنة المفعول المعين للفاعل أزلا وأبدا ممتنعا أو نقصا ، امتنع قدم شيء من العالم ، فكيف إذا كان كل منهما ثابتا هو ممتنع ، ومع تقدير إمكانه فهو نقص ؟ فإن قدم نوعه أكمل من قدم عينه ، وهو أولى بالإمكان منه . فإذا كان أولى بالإمكان وهو أكمل ، امتنع أن يكون نقيضه هو الممكن ، وإذا امتنع ذلك امتنع قدم شيء من العالم .
وعلى هذا فكل ما يذكرونه من دوام فاعلية الرب هو حجة عليهم ، فإن فاعلية النوع أكمل من فاعلية الشخص ، وهو الذي يشهد به [ الشخص ] [42] قطعا وحسا ، فإنا نشهد بفاعلية نوع شيئا بعد شيء ، فإن كان دوام الفاعلية ممكنا ، فهذا ممكن لوجوده ، ولسنا نعلم دوام الفاعلية لشيء معين ، فلا يلزم من علمنا بدوام الفاعلية ، دوام شيء معين أصلا . ودوام النوع يقتضي حدوث أفراده ، فكل ما سوى الله حادث بعد أن لم يكن ، وهو المطلوب ، فتبين أن القول بمقارنة مراده له [43] في الأزل ممتنع ، يمنع صدور الحوادث عنه .
وهذا لا يحتاج فيه إلى أن يقال : الإرادة الحادثة لا يقارنها مرادها ، [ ص: 388 ] بل يمكن أن يقال مع ذلك : [ إن ] [44] ، كما يقولون : إن الإرادة الحادثة يقارنها مرادها ، وإن كان من الناس من ينازع في ذلك . القدرة الحادثة يقارنها مقدورها