فصل 
قال الرافضي  [1]  : الأول : " قول  أبي بكر   : إن لي شيطانا يعتريني  ، فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني . ومن شأن الإمام تكميل الرعية ، فكيف يطلب منهم الكمال ؟ " 
والجواب من وجوه : أحدها : أن المأثور عنه أنه قال : " إن لي شيطانا يعتريني  " يعني [ عند ] [2] الغضب " فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم [3]  " . وقال : " أطيعوني ما أطعت الله ، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم " . وهذا الذي قاله  أبو بكر   - رضي الله عنه - من أعظم ما يمدح به ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى . 
 [ ص: 267 ] الثاني : أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب ، فخاف عند الغضب أن يعتدي على أحد من الرعية ; فأمرهم بمجانبته عند الغضب . 
كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان  " [4]  ; فنهى عن الحكم عند [5] الغضب ، وهذا هو الذي أراده [6] أبو بكر ، أراد أن لا يحكم وقت الغضب ، وأمرهم [7] أن لا يطلبوا منه حكما ، أو يحملوه [8] على حكم في هذا الحال . وهذا من طاعته لله ورسوله . 
الثالث : أن يقال : الغضب يعتري بني آدم كلهم ، حتى قال سيد ولد آدم   : " اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ، وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه [9]  : أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة  [ ص: 268 ] وقربة تقربه إليك يوم القيامة  " أخرجاه في الصحيحين عن  أبي هريرة  [10]  . 
وأخرجه  مسلم  عن  عائشة  قال : دخل رجلان على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأغضباه ; فسبهما ولعنهما ، فلما خرجا قلت : يا رسول الله من [11] أصاب من الخير ما أصاب هذان [ الرجلان ] [12]  . قال : " وما ذاك ؟ " قلت : لعنتهما وسببتهما . قال : " أوما علمت ما شارطت عليه ربي ؟ . قلت : إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته [13] فاجعله له زكاة وأجرا [14]  " ، وفي رواية  أنس   : " إني اشترطت على ربي ، فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر ، وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من  [ ص: 269 ] أمتي بدعوة ليس [15] لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة  " [16]  . 
وأيضا فموسى  رسول كريم ، وقد أخبر الله عن [17] غضبه بما ذكره في كتابه [18]  . 
فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة ، فكيف يقدح في الإمامة ؟ ! مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه  أبا بكر  بإبراهيم  وعيسى  في لينه وحلمه ، وشبه  عمر  بنوح  وموسى  في شدته في الله . فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة ، فكيف تنافيها شدة  أبي بكر  ؟ ! 
الرابع : أن يقال :  أبو بكر   - رضي الله عنه - قصد بذلك الاحتراز [19] أن يؤذي أحدا منهم ، فأيما [20] أكمل : هذا أو غيره ممن غضب على من عصاه ، وقاتلهم وقاتلوه بالسيف ، وسفك دماءهم ؟ 
فإن قيل : كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه . 
قيل : ومن عصى  أبا بكر  وأغضبه كان أحق بذلك ، لكن  أبا بكر  ترك ما يستحقه ، إن كان علي يستحق ذلك ، وإلا فيمتنع أن يقال : من عصى  [ ص: 270 ]  عليا  وأغضبه جاز أنه يقاتله ، ومن عصى  أبا بكر  لم يجز له تأديبه ; فدل على أن ما فعله  أبو بكر  أكمل [21] من الذي فعله  علي   . 
وفي المسند وغيره عن أبي برزة  أن رجلا أغضب  أبا بكر   . قال [22]  : فقلت له : أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله ؟ قال : فأذهبت كلمتي غضبه ، ثم قال : ما كانت لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم [23]  . فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره . 
والعلماء في حديث أبي برزة  على قولين : منهم من يقول : مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم . ومنهم من يقول : ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول . 
وقد تخلف عن بيعته  سعد بن عبادة  ، فما آذاه بكلمة ، فضلا عن فعل . وقد قيل : إن  عليا  وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر ، فما أزعجهم ، ولا [24] ألزمهم بيعته . فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة ، وكمال عدله وتقواه ؟ 
وهكذا قوله : فإذا اعتراني فاجتنبوني . 
الخامس : أن في الصحيح عن  ابن مسعود  عن النبي - صلى الله عليه  [ ص: 271 ] وسلم - أنه قال : " ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن " . قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي ، ولكن ربي أعانني عليه [25] فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير  " [26]  . 
وفي الصحيح عن  عائشة  قالت : يا رسول الله أومعي [27] شيطان ؟ قال : " نعم " . قالت : ومع كل إنسان ؟ قال : " نعم " قالت : " ومعك يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم " [28]  . والمراد في أصح القولين : استسلم وانقاد لي . ومن قال : حتى أسلم أنا ، فقد حرف معناه . ومن قال : الشيطان صار مؤمنا [29] ، فقد حرف لفظه . 
وقد قال موسى  لما قتل القبطي : ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين   ) [ سورة القصص : 15 ] ، وقال فتى موسى   : ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره   ) [ سورة الكهف : 63 ] . وذكر الله في قصة آدم  وحواء   ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه   ) [ سورة البقرة : 36 ] ، وقوله :  [ ص: 272 ]  ( فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما   ) [ سورة الأعراف : 20 ] . 
فإذا كان عرض [30] الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء - عليهم السلام - فكيف يقدح في إمامة الخلفاء ؟ ! 
وإن ادعى مدع أن هذه النصوص مئولة . 
قيل له : فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق ، لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه ، وتقواه وورعه . فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم [31]  . وجب تأويله . 
وأما قوله : " فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني  " ، فهذا من كمال عدله وتقواه ، وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك ، وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك ، فإن استقام الإمام [32] أعانوه على طاعة الله تعالى ، وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه ، وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان ، فإذا كان منقادا للحق ،  كأبي بكر  ، فلا عذر لهم في ترك ذلك [33] ، وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه ، لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير . 
				
						
						
