وإذا قيل : هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة ، وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا ، وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال : " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " [1] فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق .
[ ص: 474 ] قيل : قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين ، وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك ، وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه .
والعلم بكون الرجل مؤمنا في الباطن ، أو يهوديا ، أو نصرانيا ، أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه .
وقال تعالى : ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ) [ سورة محمد : 30 ] ، وقال : ( ولتعرفنهم في لحن القول ) [ سورة محمد : 30 ] ، فالمضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول ، وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف .
وقد قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ) [ سورة الممتحنة : 10 ] .
والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين ، كلهم كانوا مؤمنين به ، ولم يعظم المسلمون ـ ولله الحمد ـ على الدين منافقا .
والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك ، فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة . والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه [ ص: 475 ] الناس فيمن جربوه وامتحنوه .
ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك [2] وأبا سعيد الخدري ، أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين ، فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها ؟ ! . وجابر
فهذا مما ينبغي أن يعرف ، ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق ، بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل ، ومن هو دون هؤلاء ، فكيف لا يعلم إيمان الصحابة ، ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب ؟ ! . والجنيد
وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره ( * إذا كان دعوى نبوة ، أو غير ذلك ، وكذب الكاذب * ) [3] مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة .
وإظهار الإسلام من هذا الباب ؛ فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب .
فهذا يقال أولا ، ويقال ثانيا : وهو ما ذكره وغيره ، ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا ـ : أن أحمد المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا ، وذلك [ ص: 476 ] لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم [4] بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره ، بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه ، لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر .
ويقال : ثالثا : عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته [5] فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه ، أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول ؟ .
ثم يقال : جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث [6] إلى الموت فإنه ، ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل أول من آمن به من الرجال الأحرار وغيره ، وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به ، ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته : إما غدوة وإما عشية ، وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من بلال مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد [7] القارة ، وقال : إلى [ ص: 477 ] أين ؟ وقد تقدم حديثه : فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل ؟ أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به ؟ ! وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه ، ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين ؟ ! .
وكثير من الناس يكون مواليا لغيره ، لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه ، فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس ، وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا ; لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة [8] شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك ، بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء .
والإنسان قد يظهر موافقته للغير : إما لغرض يناله منه ، أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الاحتيال عليه ، وهذا كله كان منتفيا بمكة ، فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى لأبي بكر ، بل كانوا أقدر على ذلك ، ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبي بكر أبى بكر مع خلوته به ، واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم ، أو قتل ، أو غير ذلك .
[ ص: 478 ] وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا ، وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به ، وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون ، وهم بالسوأة ، وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به ، وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته .
معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم وأبو بكر بدر يكون معه وحده في العريش ، ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي [9] صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط ، وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع ، فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته ؟ ! ، فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول [10] فهو كما قيل : " عدو عاقل خير من صديق جاهل " .
ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم ، وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول ، فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام ، والقدح [ ص: 479 ] في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء .
وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام ، أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك ، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة وقتله ، ثم لما قدم على عثمان الكوفة أظهر الغلو في والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك علي فطلب قتله فهرب منه إلى عليا قرقيسيا [11] وخبره معروف ، وقد ذكره غير واحد من العلماء .
وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له ، ولهذا كانت والدخول إلى مقاصدهم من باب الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون بإظهار التشيع الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب " البلاغ الأكبر " و " الناموس الأعظم " .