ومما يبين ذلك أن آية براءة لفظها يخص النصارى ، وقد اتفق المسلمون على أن حكمها يتناول اليهود والمجوس .
والمقصود أنه لم يكن الأمر في أول الإسلام منحصرا بين أن يقاتلهم المسلمون وبين إسلامهم إذا كان هنا قسم ثالث ، وهو معاهدتهم ، فلما نزلت آية الجزية لم يكن بد من القتال أو الإسلام ، والقتال إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية ، فصار هؤلاء إما مقاتلين وإما مسلمين ولم يقل تقاتلونهم أو يسلموا ، ولو كان كذلك لوجب قتالهم إلى أن يسلموا ، [ ص: 518 ] وليس الأمر كذلك ، بل إذا أدوا الجزية لم يقاتلوا ولكنهم مقاتلين أو مسلمين فإنهم لا يؤدون الجزية بغير القتال ; لأنهم أولو بأس شديد ، ولا يجوز مهادنتهم بغير جزية .
ومعلوم أن أبا بكر ، بل وعمر في خلافتهم قوتل هؤلاء وضربت الجزية على وعثمان أهل الشام والعراق والمغرب ، فأعظم قتال هؤلاء القوم وأشده كان في خلافة هؤلاء .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم في غزوة تبوك وفي غزوة مؤتة استظهروا على المسلمين ، وقتل زيد وجعفر وأخذ الراية وعبد الله بن رواحة وغايتهم أن نجوا . خالد
والله أخبر أننا نقاتلهم أو يسلمون فهذه صفة الخلفاء الراشدين الثلاثة فيمتنع أن تكون الآية مختصة بغزوة مؤتة ، ولا يدخل فيها قتال المسلمين في فتوح الشام والعراق والمغرب ومصر وخراسان ، وهي الغزوات التي أظهر الله فيها الإسلام ، وظهر الهدى ودين الحق في مشارق الأرض ومغاربها .
لكن قد يقال : مذهب أهل السنة أن يغزى مع كل أمير دعا ، برا كان أو ، فاجرا فهذه الآية تدل على وجوب الجهاد مع كل أمير [1] دعا الناس إليه لأنه ليس فيها ما يدل على أن الداعي إمام عدل .
فيقال : هذا ينفع أهل السنة ، فإن [2] معصوم ، ولا معصوم عندهم من الصحابة إلا علي ، فهذه الآية [ ص: 519 ] حجة عليهم في وجوب غزو الكفار مع جميع الأمراء ، وإذا ثبت هذا الرافضة لا ترى الجهاد إلا مع إمام فأبو بكر وعمر أفضل من غزا الكفار من هؤلاء الأمراء بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وعثمان
ثم من المحال أن يكون كل من أمر الله المسلمين أن يجاهدوا معه الكفار بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ظالما فاجرا معتديا ، لا تجب طاعته في شيء من الأشياء ، فإن هذا خلاف القرآن حيث وعد على طاعته بأن يؤتي أجرا حسنا ، ووعد على التولي عن طاعته [3] بالعذاب الأليم .
وقد يستدل بالآية على عدل الخلفاء ; لأنه وعد بالأجر الحسن على مجرد الطاعة إذا دعوا إلى القتال ، وجعل المتولي عن ذلك كما تولى من قبل معذبا عذابا أليما .
ومعلوم أن الأمير الغازي إذا كان فاجرا لا تجب طاعته في القتال مطلقا ، بل فيما أمر الله به ورسوله والمتولي عن طاعته لا يتولى كما تولى عن طاعة الرسول بخلاف المتولي عن طاعة الخلفاء الراشدين ، فإنه قد يقال : إنه تولى كما تولى من قبل إذا كان أمر الخلفاء الراشدين مطابقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي الجملة فهذا الموضع في الاستدلال به نظر ودقة ، ولا حاجة بنا إليه ففي غيره ما يغني عنه .
[ ص: 520 ] وأما [4] : " إن الداعي جاز أن يكون دون من قبله من الخلفاء عليا قول الرافضي [5] لما قاتل [6] الناكثين والقاسطين والمارقين " يعني : أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج .
فيقال له : هذا باطل قطعا من وجوه :
أحدها : أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم ، بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره ، وجيشه كانوا أكثر منهم ، وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم وكذلك أهل صفين كان جيشه أكثر منهم ، وكانوا من جنسهم فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأس شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم .
ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشد بأسا من هؤلاء بكثير ، ولم يحصل في أصحاب علي من الخوارج من استحرار [7] القتل ما حصل في جيش الصديق الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة ، وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا ، وإن كان قتال العرب للكفار ( * في أول الإسلام كان أفضل وأعظم ، فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر لا أن [8] عدوهم * ) [9] [ ص: 521 ] كان أشد بأسا من فارس والروم .
ولهذا قال تعالى : ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) [ سورة آل عمران : 123 ] ، فإن هؤلاء تجمعهم دعوة الإسلام والجنس [10] فليس في بعضهم لبعض من البأس ما كان في فارس والروم والنصارى والمجوس للعرب المسلمين الذين لم يكونوا يعدونهم إلا من أضعف جيرانهم ورعاياهم ، وكانوا يحتقرون أمرهم غاية الاحتقار ، ولولا أن الله أيد المؤمنين بما أيد به رسوله والمؤمنين على سنته الجميلة معهم لما كانوا ممن يثبت معهم في القتال ، ويفتح البلاد وهم أكثر منهم عددا وأعظم قوة وسلاحا ، لكن قلوب المؤمنين أقوى بقوة الإيمان التي خصهم الله بها .
الوجه الثاني : أن لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال عليا أهل الجمل وقتال الخوارج ، ولما قدم البصرة لم يكن في نيته قتال أحد ، بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة ، وأما والزبير الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم ، لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز .
الثالث : أنه لو قدر أن تجب طاعته في قتال هؤلاء فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة ولي الأمر ، ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله . عليا
ومعلوم أن من خرج من طاعة ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذب الرسول والقرآن ، ولم يقر بشيء مما جاء به الرسول ، بل هؤلاء [ ص: 522 ] أعظم ذنبا ، ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل وقتالهم أفضل ، إن قدر أن الذين قاتلوا علي كفار . عليا
وإن قيل : هم مرتدون ، كما تقوله الرافضة .
فمعلوم أن من كانت ردته إلى أن يؤمن برسول آخر غير محمد كأتباع مسيلمة الكذاب فهو أعظم ردة ممن لم يقر بطاعة الإمام مع إيمانه بالرسول .
فبكل حال لا يذكر ذنب لمن قاتله إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم ، ولا يذكر فضل ولا ثواب لمن قاتل مع علي إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم . علي
هذا بتقدير أن يكون من قاتله كافرا ، ومعلوم أن هذا قول باطل لا يقوله إلا حثالة علي الشيعة ، وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك ، وقد علم بالتواتر عن وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفرون من قاتل علي ، وهذا كله إذا سلم أن ذلك القتال كان مأمورا به ، كيف وقد عرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوبه القتال فيه عليا [11] ، أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال .
. والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به وأن تركه أفضل من الدخول فيه ، بل عدوه قتال فتنة
[ ص: 523 ] وعلى هذا جمهور أهل الحديث ، وجمهور أئمة الفقهاء . فمذهب فيما ذكره أبي حنيفة [12] القدوري [13] أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال ، وأهل صفين لم يبدأوا بقتال . عليا
وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة ، وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وغيرهم : أنه لم يكن مأمورا به وأن تركه كان خيرا من فعله ، وهو قول جمهور أئمة السنة ، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب بخلاف وأحمد الحرورية والخوارج أهل النهروان ، فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الصحابة وعلماء السنة . قتال
ففي الصحيحين عن قال أسامة بن زيد المدينة ، وقال : " هل ترون ما أرى ؟ " ، قالوا لا ، قال : " فإني أرى [14] مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر " أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام [15] .
[ ص: 524 ] ( * وفي السنن عن أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عبد الله بن عمرو بن العاص * ) إنها ستكون فتنة تستنظف العرب ، قتلاها في النار ، اللسان فيها أشد من وقع السيف [16] " [17] .
وفي السنن عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له ، واستشراف اللسان فيها كوقوع السيف [18] .
وعن قالت : أم سلمة " استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقال : " سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن [19] .
وفي الصحيحين عن قال : أبي هريرة [20] القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ، ومن يستشرف لها تستشرف له ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به " قال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 525 ] وسلم : " ستكون فتنة [21] .
ورواه أبو بكرة [22] في الصحيحين وقال فيه : " [23] فيقتلني ؟ فقال : " يبوء [24] بإثمه وإثمك ، ويكون [25] من أصحاب النار " فإذا نزلت ، أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه " قال : فقال رجل : يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض ؟ قال : " يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ، ثم لينج إن استطاع النجاء ، اللهم هل بلغت ؟ اللهم هل بلغت ؟ " فقال رجل : يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين ، أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه ، أو يجيء سهم [26] .
ومثل هذا الحديث معروف عن وغيره من الصحابة والذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة ، ، وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة ، [ ص: 526 ] وغيرهم وأبي هريرة [27] ، جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك ، بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام وقعدوا عن القتال ، وأمروا غيرهم بالقعود عن القتال كما استفاضت بذلك الآثار عنهم .
والذين قاتلوا من الصحابة لم يأت أحد منهم بحجة توجب القتال لا من كتاب ولا من سنة ، بل أقروا بأن [28] قتالهم كان رأيا رأوه ، كما أخبر بذلك رضي الله عنه عن نفسه ، ولم يكن في العسكرين علي [29] أفضل من ، فيكون ممن هو دونه [ أولى ] علي [30] ، وكان أحيانا يظهر فيه الندم والكراهة للقتال مما يبين أنه لو لم يكن عنده فيه شيء علي [31] من الأدلة الشرعية ، مما [32] يوجب رضاه وفرحه ، بخلاف قتاله للخوارج ، فإنه كان [ ص: 527 ] يظهر فيه من الفرح والرضا والسرور ما يبين أنه كان يعلم أن قتالهم كان طاعة لله ورسوله يتقرب [33] به إلى الله ، لأن في قتال الخوارج من النصوص النبوية والأدلة الشرعية ما يوجب ذلك .
ففي الصحيحين عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي سعيد [34] من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق . تمرق مارقة على حين فرقة [35]
وفي لفظ قال : " مسلم [36] سيماهم التحليق هم شر الخلق ، أو من شر الخلق " قال أبو سعيد [37] : " فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق " . ذكر قوما يخرجون في أمته يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق
ولفظ البخاري [38] : " [39] كما يمرق السهم من الرمية ، لا [ ص: 528 ] يعودون فيه حتى يعود السهم " يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام [40] .
وفي الصحيحين عن قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " علي [41] يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا [42] عن العمل آيتهم أن فيهم رجلا له عضد ، ليس فيها ذراع على رأسه عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض " يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس في قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم [43] .
الوجه الرابع : أن الآية لا تتناول القتال مع قطعا ; لأنه قال : ( علي تقاتلونهم أو يسلمون ) [ سورة الفتح : 16 ] فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد الأمرين [44] : المقاتلة أو الإسلام ، ومعلوم أن الذين دعا إليهم علي [ ص: 529 ] فيهم خلق لم يقاتلوه ألبتة ، بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه ، فكانوا صنفا ثالثا : لا قاتلوه [45] ولا قاتلوا معه ولا أطاعوه ، وكلهم مسلمون ، وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة علي وغيره .
قال تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) [ سورة الحجرات : 9 ] ، فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي ، وأخبر أنهم إخوة [46] وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر .
وفي صحيح وغيره عن البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي بكرة : " للحسن " إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين [47] فأصلح الله به بين عسكر وعسكر علي ، فدل على أن كليهما مسلمون ودل على أن الله يحب الإصلاح بينهما ، ويثني على معاوية [48] من فعل ذلك ، ودل على أن ما فعله كان رضى لله ورسوله الحسن [49] ، ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه رضى لله ولرسوله .
وأيضا فالنقل المتواتر عن الصحابة أنهم حكموا في الطائفتين [ ص: 530 ] بحكم الإسلام وورثوا بعضهم من بعض ، ولم يسبوا ذراريهم ، ولم يغنموا أموالهم التي لم يحضروا بها القتال ، بل كان يصلي بعضهم على بعض وخلف بعض .
وهذا أحد ما نقمته الخوارج على ، فإن مناديه نادى يوم الجمل : لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ، ولم يغنم أموالهم ، ولا سبى علي [50] ذراريهم إلى ابن عباس الخوارج ، وناظرهم في ذلك . وأرسل
فروى أبو نعيم بالإسناد الصحيح [51] عن سليمان بن الطبراني [52] عن محمد بن إسحاق بن راهويه ، وسليمان عن علي بن عبد العزيز عن أبي حذيفة [53] وعبد الرزاق ، قالا : حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا أبو زميل الحنفي عن ابن عباس [54] قال : " لما اعتزلت الحرورية ، قلت : يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة فلعلي آتي لعلي [55] هؤلاء القوم فأكلمهم ، قال : إني أتخوفهم عليك ، قال : قلت : كلا إن شاء الله ، فلبست أحسن [ ما أقدر ] عليه [56] من هذه اليمانية [57] ، ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر [58] [ ص: 531 ] الظهيرة ، فدخلت على قوم لم أر قوما أشد اجتهادا منهم ، أيديهم كأنها ثفن الإبل [59] ووجوههم معلمة [60] من آثار السجود ، قال : فدخلت فقالوا : مرحبا بك يا ما جاء بك ؟ قال : جئت أحدثكم على ابن عباس [61] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الوحي ، وهم أعلم بتأويله ، فقال بعضهم : لا تحدثوه ، وقال بعضهم : لنحدثنه ، قال : قلت : أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه [62] وأول من آمن به ، وأصحاب رسول الله معه ؟ قالوا : ننقم عليه ثلاثا ، قلت : ما هن ؟ قالوا : أولهن أنه حكم الرجال في دين الله ، وقد قال تعالى : ( إن الحكم إلا لله ) [ سورة الأنعام : 57 ] قال : قلت : وماذا ؟ قالوا : قاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم ، وإن كانوا مؤمنين فقد [63] حرمت عليه دماؤهم ، قال : قلت : وماذا ؟ قالوا : ومحا نفسه من [64] أمير المؤمنين ، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين .
قال : قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله [65] المحكم ، وحدثتكم [ ص: 532 ] عن [66] سنة نبيكم ما لا تنكرون أترجعون ؟ قالوا : نعم ، قال : قلت : أما قولكم : إنه حكم الرجال في دين الله ، فإن الله يقول ياأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) [ سورة المائدة : 95 ] ، وقال : في المرأة وزوجها ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) [ سورة النساء : 35 ] أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم ( * أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم ؟ قالوا : في [ حقن ] * ) [67] دمائهم وصلاح ذات بينهم ، قال [68] : أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال [69] : وأما قولكم قاتل [70] ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم [71] ، ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست أمكم [72] فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام إن الله يقول : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) [ سورة الأحزاب : 6 ] وأنتم مترددون [73] بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم .
[ ص: 533 ] قال : وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشا يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه [74] كتابا ، فقال : اكتب هذا ما قاضى [75] عليه محمد رسول الله " فقالوا : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال : " والله إني لرسول الله ، وإن كذبتموني ، اكتب يا : علي محمد بن عبد الله " ورسول الله [76] كان أفضل من أخرجت من هذه ؟ قالوا : اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفا ، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا علي " .
وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم ، وجعل رجوعهم إلى طاعة إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم فيما زعمه : " علي يا حربك حربي علي " ، فيقال : من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شيء من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتداولونه بينهم ، ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف ، بل هو أخس [77] من ذلك ، وهو من أظهر الموضوعات كذبا ، فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه جعل الطائفتين [ ص: 534 ] مسلمين ، وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها ، وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين ، فلو كانت إحدى الطائفتين مرتدين عن الإسلام لكانوا أكفر من اليهود والنصارى الباقين على دينهم وأحق بالقتال * ) [78] منهم كالمرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم وسائر الصحابة ، واتفقوا على قتالهم ، بل الصديق [79] وسبوا ذراريهم ، وتسرى من ذلك السبي بالحنفية : علي أم محمد بن الحنفية .