[ ص: 575 ] فصل [1] .
وقد تقدم التنبيه على أن ودلهم عليها الصديق ، وبين لهم أنه أحق بها من غيره . النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة إلى خلافة
مثل ما أخرجاه في الصحيحين عن جبير بن مطعم أبا بكر " أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : يا رسول الله : أرأيت إن جئت فلم أجدك ؟ - كأنها تعني الموت - قال : " فإن لم تجديني فأتي [2] .
والرسول علم أن الله لا يختار غيره [3] ، والمؤمنون لا يختارون غيره ، ولذلك قال : أبا بكر " فكان فيما دلهم به من الدلائل الشرعية ، وما علم بأن الله سيقدره من الخير الموافق لأمره ورضاه ما يحصل به تمام الحكمة في خلقه وأمره ، قدرا وشرعا . يأبى الله والمؤمنون إلا
وقد ذكرنا أن ما اختاره الله كان أفضل في حق الأمة [4] من وجوه ، وأنهم إذا ولوا بعلمهم واختيارهم من علموا أنه الأحق بالولاية عند الله ورسوله كان في ذلك من المصالح الشرعية ما لا يحصل بدون ذلك .
وبيان الأحكام يحصل تارة بالنص الجلي المؤكد ، وتارة بالنص [ ص: 576 ] الجلي المجرد ، وتارة بالنص الذي قد يعرض لبعض الناس فيه شبهة بحسب مشيئة الله وحكمته .
وذلك كله داخل في البلاغ المبين ، فإنه من ليس [5] شرط البلاغ المبين أن لا يشكل على أحد ، فإن هذا لا ينضبط ، وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتا عظيما ، وفيهم من يبلغه العلم ، وفيهم من لا يبلغه إما لتفريطه وإما لعجزه .
وإنما على الرسول البلاغ المبين : البيان الممكن ، وهذا - ولله الحمد - قد حصل منه صلى الله عليه وسلم ، فإنه بلغ البلاغ المبين ، وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، وما ترك من شيء يقرب إلى الجنة إلا أمر الخلق به ، ولا من شيء يقربهم من النار إلا نهاهم عنه ، فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته .
وأيضا فأمر النبي [6] صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس إذا غاب ، وإقراره إذا حضر قد كان في صحته قبل هذه المرة . أبا بكر
كما في الصحيحين عن سهل بن سعد بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى ، فقال : أتصلي بالناس فأقيم ؟ قال : نعم ، فصلى أبي بكر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصلاة ، فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة ، فلما أكثر الناس من التصفيق التفت ، فرأى رسول الله صلى الله [ ص: 577 ] عليه وسلم ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك ، فرفع أبو بكر يديه ، فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ، ثم انصرف ، فقال : " يا أبو بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ " فقال أبا بكر : ما كان أبو بكر لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لي أراكم أكثرتم التصفيق ؟ من نابه شيء في صلاته فليسبح ، فإنه إذا سبح التفت إليه ، وإنما التصفيق للنساء " وفي رواية : " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى رجع القهقرى ، وفي رواية أبا بكر : فجاء للبخاري إلى بلال فقال : يا أبي بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة ، فهل لك أن تؤم الناس ؟ فقال : نعم إن شئت ، وفي رواية : " أيها الناس ما لكم حين نابكم شيء في صلاتكم أخذتم في التصفيق ، إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل : سبحان الله ، فإنه لا يسمعه أحد يقول : سبحان الله إلا التفت ، يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك ؟ " وفي رواية : أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أبا بكر بني عمرو بن عوف بعد ما صلى الظهر ، وفيه فلما أومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن امضه ، وأومأ بيده هكذا ، فلبث هنيهة يحمد الله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم مشى القهقرى . أبو بكر
[ ص: 578 ] وفي رواية : أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم ، [ وفي رواية : ] [7] فحضرت الصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأذن بالصلاة ، ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا [ الحديث ] فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم ، وفيها : أن [8] من أصح حديث على وجه الأرض ، وهو مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول [9] ، وفيه : أن أمهم في مغيب النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرت صلاة العصر ، وهي الوسطى التي أمروا بالمحافظة عليها خصوصا ، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولا ، ذهب إلى أبا بكر قباء ليصلح بين أهل قباء لما اقتتلوا ، وقد علموا من سنته أنه يأمرهم في مثل هذه الحال أن يقدموا أحدهم ، كما قدموا في غزوة عبد الرحمن بن عوف تبوك لصلاة الفجر ، لما أبطأ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب هو والمغيرة [10] لقضاء حاجته ، وكان عليه جبة من صوف ، هو المؤذن الذي هو أعلم بذلك وبلال [11] من غيره ، فسأل أن يصلي بهم فصلى بهم ، لا سيما وقد أمرهم بتقديمه . أبا بكر
[ ص: 579 ] ففي الصحيحين عن قال : سهل بن سعد بني عمرو بن عوف ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ليصلح بينهم بعد الظهر ، فقال : " إن حضرت الصلاة ولم آتك ، فمر لبلال فليصل بالناس أبا بكر " وذكر الحديث ، ثم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى كان قتال بين أن يتم بهم الصلاة ، فسلك أبي بكر مسلك الأدب معه ، وعلم أن أمره أمر إكرام لا أمر إلزام ، فتأخر تأدبا معه لا معصية لأمره ، فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يقره في حال صحته وحضوره على إتمام الصلاة بالمسلمين التي شرع فيها ، ويصلي خلفه صلى الله عليه وسلم كما صلى الفجر خلف أبو بكر في غزوة عبد الرحمن بن عوف تبوك صلى إحدى الركعتين وقضى الأخرى ، فكيف يظن به أنه في مرضه وإذنه له في الصلاة بالناس حتى يخرج ليمنعه من إمامته بالناس ؟ ! .
فهذا ونحوه مما يبين أن عند الله وعند رسوله والمؤمنين في غاية المخالفة لما هي عند هؤلاء الصديق الرافضة المفترين الكذابين الذين هم ردء المنافقين ، وإخوان المرتدين والكافرين الذين يوالون أعداء الله ، ويعادون أولياءه . حال
ولا ريب أن وأعوانه هم أشد الأمة جهادا للكفار والمنافقين والمرتدين ، وهم الذين قال الله فيهم : ( أبا بكر فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) [ سورة المائدة : 54 ] .
فأعوانه وأولياؤه خير الأمة وأفضلها ، وهذا أمر معلوم في السلف [ ص: 580 ] والخلف ، فخيار المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقدمونه في المحبة على غيره ويرعون حقه ، ويدفعون عنه من يؤذيه .
مثال ذلك أن أمراء الأنصار اثنان : ، سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة أفضلهما . وسعد بن معاذ
ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم سعد عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه ، وحمله النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله أنه اهتز لموت [12] .
ولما حكم في بني قريظة بحكم لم تأخذه في الله لومة لائم ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات [13] .
وقد عرف أنه وابن عمه كانا أسيد بن حضير [14] من أعظم أنصار وابنته على أهل الإفك ، ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر مكة يوم الفتح كان رأس أبو بكر المهاجرين عن يمينه ، رأس وأسيد بن حضير الأنصار عن يساره ، فإن كان قد توفي عقب سعد بن معاذ الخندق بعد حكمه في بني قريظة .
وقال لما نزلت آية التيمم : ما هي بأول بركتكم يا أسيد بن حضير آل أبي بكر ، ما نزل ما تكرهينه [15] إلا جعل الله لك فيه فرجا ، وجعل للمسلمين فيه بركة .
[ ص: 581 ] وعمر وأبو عبيدة وأمثالهما من خيار المهاجرين ، وكانا من أعظم أعوان ، وهؤلاء أفضل من الصديق الذي تخلف عن بيعته ، وعن القيام على أهل الإفك ، وعزله عن الإمارة يوم فتح سعد بن عبادة مكة ، وقد روي أن الجن قتلته ، وإن كان مع ذلك من السابقين الأولين من أهل الجنة .
وكذلك عمر أفضل من وعثمان فإنه لم يكن له في قصة الإفك من نصرة علي ، وفي خلافة الصديق من القيام بطاعة الله ورسوله ومعاونته أبي بكر ما كان لغيره ، والله حكم عدل يجزي الناس بقدر أعمالهم ، وقد فضل الله النبيين بعضهم على بعض ، وفضل الرسل على غيرهم وأولو العزم أفضل من سائر الرسل ، وكذلك أبي بكر المهاجرين والأنصار على غيرهم ، وكلهم أولياء الله ، وكلهم في الجنة ، وقد رفع الله درجات بعضهم على بعض ، فكل من كان إلى فضل السابقين الأولين من أقرب من الصديق المهاجرين والأنصار ، كان أفضل فما زال خيار المسلمين مع الصديق [16] قديما وحديثا ، وذلك لكمال نفسه وإيمانه .
وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة [17] رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، فإن كمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم أوجب سراية الحب لأهل بيته ، إذ كان رعاية [ ص: 582 ] أهل بيته مما أمر الله ورسوله به ، وكان رضي الله عنه يقول : " ارقبوا الصديق محمدا في آل بيته " رواه عنه البخاري [18] ، وقال : " والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي " [19] .