الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              2928 - أبو خراش الهذلي الشاعر.

                                                              اسمه خويلد بن مرة القردي.
                                                              من بني قرد ابن عمرو بن معاوية بن تميم بن سعد بن هذيل. مات في زمن عمر بن الخطاب من نهش حية، وله في ذلك خبر عجيب، وكان ممن يعدو على قدميه فيسبق الخيل. وقد حدث عنه عمران بن عبد الرحمن بن فضالة بن عبيد، وكان في الجاهلية من فتاك العرب، ثم أسلم فحسن إسلامه، وهو القائل :


                                                              رموني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت - وأنكرت، الوجوه: هم هم

                                                              وكان جميل بن معمر الجمحي قد قتل أخاه زهيرا المعروف بالعجوة يوم فتح مكة مسلما، وقيل: بل كان زهير ابن عمه.

                                                              وذكر ابن هشام، قال. حدثني أبو عبيدة، قال: أسر زهير العجوة الهذلي يوم حنين وكتف، فرآه جميل بن معمر، فقال: أنت الماشي لنا بالمعايب، فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه - وكان ابن عمه - كذا قال أبو عبيدة، فالأول قول محمد بن يزيد. قال: وكان يومئذ جميل بن معمر كافرا ثم أسلم بعد، وكان أتاه من ورائه، وهو موثق فضربه. وقد قيل: إنه قتله يوم حنين مأسورا وجميل يومئذ مسلم، ففي ذلك يقول أبو خراش:


                                                              فجع أضيافي جميل بن معمر     بذي مفخر تأوي إليه الأرامل

                                                              [ ص: 1637 ]

                                                              طويل نجاد السيف ليس بجيدر     إذا اهتز واسترخت عليه الحمائل
                                                              إلى بيته يأوي الغريب إذا شتا     ومهتلك بالي الدريسين عائل
                                                              تكاد يداه تسلمان رداءه     من الجود لما استقبلته الشمائل
                                                              فأقسم لو لاقيته غير موثق     لآبك بالجزع الضباع النواهل
                                                              وإنك لو واجهته ولقيته     فنازلته أو كنت ممن ينازل
                                                              لكنت جميلا أسوأ الناس صرعة     ولكن أقران الظهور مقاتل
                                                              فليس كعهد الدار يا أم مالك     ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
                                                              وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل     سوى الحق شيئا فاستراح العواذل

                                                              قوله: أحاطت بالرقاب السلاسل، يقول: جاء الإسلام فمنع من طلب الأثآر إلا بحقها. وقد قيل: إن هذا الشعر في أخيه عروة بن مرة يرثيه به.

                                                              وقال محمد بن يزيد: مما يستحسن لأبي خراش الهذلي، وهو أحد حكماء العرب - قوله يذكر أخاه عروة :


                                                              تقول أراه بعد عروة لاهيا     وذلك رزء ما علمت جليل
                                                              فلا تحسبي أني تناسيت عهده     ولكن صبري يا أميم جميل

                                                              زاد أبو الحسن الأخفش في هذه الأبيات بعد البيتين المذكورين:


                                                              ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا     خليلا صفاء: مالك وعقيل

                                                              [ ص: 1638 ]

                                                              أبى الصبر أني لا يزال يهيجني     مبيت لنا فيما مضى ومقيل
                                                              وأني إذا ما الصبح آنست ضوءه     يعاودني قطع علي ثقيل

                                                              قال أبو الحسن: مالك وعقيل اللذان ذكرهما نديما جذيمة الأبرش، ولهما قصة وخبر فيه طول، وهما اللذان يعنيهما متمم بن نويرة في مرثية يرثي فيه أخاه مالكا حيث يقول:


                                                              وكنا كندماني جذيمة حقبة     من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

                                                              ولأبي خراش الهذلي أيضا في المراثي أشعار حسان، فمن شعر له فيها :


                                                              حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا     خراش وبعض الشر أهون من بعض
                                                              على أنها تدمى الكلوم وإنما     نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
                                                              فو الله لا أنسى قتيلا رزئته     بجانب قوسي ما مشيت على الأرض
                                                              ولم أدر من ألقى عليه رداءه     على أنه قد سل عن ماجد محض

                                                              قال أبو عمر: لم يبق عربي بعد حنين والطائف إلا أسلم، منهم من قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقدم عليه وقنع بما أتاه به وافد قومه من الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                              أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف، قال: حدثنا يحيى بن مالك، قال: قال خالد بن صفوان: ما قالت العرب بيتا أجود من قول أبي خراش:


                                                              على أنها تدمى الكلوم وإنما     نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي

                                                              وقال: حدثنا الحسن بن محمد بن محمد بن مقلة البغدادي بمصر ، قال [ ص: 1639 ] .

                                                              حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: أسلم أبو خراش وحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجا، والماء منهم غير بعيد، فقال: يا بني عمي، ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه برمة وشاة فردوا الماء، وكلوا شاتكم، ثم دعوا برمتنا وقربتنا على الماء حتى نأخذها، فقالوا: لا والله، ما نحن سائرين في ليلتنا هذه، وما نحن ببارحين حيث أمسينا. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربة وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، وقال: اطبخوا شاتكم، وكلوا، ولم يعلمهم ما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش وهو في الموتى، فلم يبرحوا حتى دفنوه. وقال - وهو يموت في شعر له :


                                                              لقد أهلكت حية بطن واد     على الإخوان ساقا ذات فضل
                                                              فما تركت عدوا بين بصرى     إلى صنعاء يطلبه بذحل

                                                              فبلغ خبره عمر بن الخطاب، فغضب غضبا شديدا، وقال: لولا أن تكون سنة لأمرت ألا يضاف يمان أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا على أبي خراش الهذلي فيلزمهم ديته ويؤذيهم بعد ذلك بعقوبة يمسهم بها جزاء لفعلهم.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية