الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              3002 - أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                              وكان أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتهما حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية. وأمه غزية بنت قيس بن طريف، من ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. قال قوم - منهم إبراهيم بن المنذر: اسمه المغيرة. وقال آخرون: بل اسمه كنيته، والمغيرة أخوه [ ص: 1674 ] .

                                                              ويقال: إن الذين كانوا يشبهون برسول الله صلى الله عليه وسلم: جعفر بن أبي طالب، والحسن بن علي بن أبي طالب، وقثم بن العباس بن عبد المطلب، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والسائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من الشعراء المطبوعين، وكان سبق له هجاء في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإياه عارض حسان بن ثابت بقوله:


                                                              ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلة فقد برح الخفاء     هجوت محمدا فأجبت عنه
                                                              وعند الله في ذاك الجزاء

                                                              وقد ذكرنا الأبيات في باب حسان . والشعر محفوظ. ثم أسلم فحسن إسلامه فيقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه.

                                                              وكان إسلامه يوم الفتح قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، لقيه هو وابنه جعفر بن أبي سفيان بالأبواء فأسلما. وقيل: بل لقيه هو وعبد الله بن أبي أمية بين السقيا والعرج. فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وأخي ابن عمتك أشقى الناس بك. وقال علي بن أبي طالب لأبي سفيان بن الحارث: إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه. ففعل ذلك أبو سفيان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين وقبل منهما، وأسلما وأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما سلف منه:


                                                              لعمرك إني يوم أحمل راية     لتغلب خيل اللات خيل محمد

                                                              [ ص: 1675 ]

                                                              لكالمظلم الحيران أظلم ليله     فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
                                                              هداني هاد غير نفسي ودلني     على الله من طردته كل مطرد
                                                              أصد وأنأى جاهدا عن محمد     وأدعى وإن لم أنتسب من محمد

                                                              قال ابن إسحاق : فذكروا أنه حين أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: « من طردته كل مطرد» ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: أنت طردتني كل مطرد! وشهد أبو سفيان حنينا، وأبلى فيها بلاء حسنا، وكان ممن ثبت ولم يفر يومئذ، ولم تفارق يده لجام. بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف الناس إليه، وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وشهد له بالجنة، وكان يقول: أرجو أن تكون خلفا من حمزة. وهو معدود في فضلاء الصحابة. روى عفان، عن وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو سفيان بن الحارث من شباب أهل الجنة،  أو سيد فتيان أهل الجنة. ويروى عنه أنه لما حضرته الوفاة قال: لا تبكوا علي، فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت. وذكر ابن إسحاق أن أبا سفيان بن الحارث بكى النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ورثاه فقال:


                                                              أرقت فبات ليلي لا يزول     وليل أخي المصيبة فيه طول
                                                              فأسعدني البكاء وذاك فيما     أصيب المسلمون به قليل

                                                              [ ص: 1676 ]

                                                              لقد عظمت مصيبتنا وجلت     عشية قيل قد قبض الرسول
                                                              وأضحت أرضنا مما عراها     تكاد بنا جوانبها تميل
                                                              فقدنا الوحي والتنزيل فينا     يروح به ويغدو جبرئيل
                                                              وذاك أحق ما سالت عليه     نفوس الناس أو كادت تسيل
                                                              نبي كان يجلو الشك عنا     بما يوحى إليه وما يقول
                                                              ويهدينا فلا نخشى ضلالا     علينا والرسول لنا دليل
                                                              أفاطم إن جزعت فذاك عذر     وإن لم تجزعي ذاك السبيل
                                                              فقبر أبيك سيد كل قبر     وفيه سيد الناس الرسول

                                                              وأبو سفيان بن الحارث هو الذي يقول أيضا:


                                                              لقد علمت قريش غير فخر     بأنا نحن أجودهم حصانا
                                                              وأكثرهم دروعا سابغات     وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
                                                              وأدفعهم لدى الضراء عنهم     وأبينهم إذا نطقوا لسانا

                                                              وروى أبو حبة البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو سفيان خير أهلي - أو من خير أهلي. وقال ابن دريد وغيره من أهل العلم بالخبر: إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل الصيد في جوف الفرا: إنه أبو سفيان بن الحارث ابن عمه هذا. وقد قيل: إن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في أبي سفيان بن حرب، وهو الأكثر، والله أعلم.

                                                              قال عروة: وكان سبب موته أنه حج، فلما حلق الحلاق رأسه قطع [ ص: 1677 ] ثؤلولا كان في رأسه، فلم يزل مريضا منه حتى مات بعد مقدمه من الحج بالمدينة سنة عشرين. ودفن في دار عقيل بن أبي طالب، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل: بل مات أبو سفيان بن الحارث بالمدينة بعد أخيه نوفل بن الحارث بأربعة أشهر إلا ثلاث عشرة ليلة، وكان هو الذي حفر قبر نفسه قبل أن يموت بثلاثة أيام، وكانت وفاة نوفل بن الحارث على ما ذكرنا في بابه سنة خمس عشرة.

                                                              التالي السابق


                                                              الخدمات العلمية