الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه: أن أبا بكر دخل، وعند عائشة قينتان تغنيان في أيام منى،  والنبي عليه السلام مضطجع مسجى ثوبه على وجهه. فقال أبو بكر: أعند رسول الله يصنع هذا، فكشف النبي عليه السلام عن وجهه وقال: "دعهن يا أبا بكر فإنها أيام عيد".

حدثناه الصفار، نا الرمادي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير.

القينة عند العامة: المغنية لا تعرف غيرها. والقينة عند العرب: الأمة. والقين: العبد. والقيان: الإماء. قال زهير:


رد القيان جمال الحي فاحتملوا إلى الظهيرة أمر بينهم لبك

والقينة أيضا: الماشطة، وهي التي تزين العرائس، يقال قد قينتها فهي مقينة، وإنما قيل للمغنية قينة إذا كان الغناء صناعة لها، والقين الصانع [ ص: 655 ] عند العرب إلا أن الغالب عليه الصانع بالحديد، وأراد بالقينتين هاهنا جاريتين كانتا عندها تنشدان شعرا.

وبيان ذلك ما روي في هذا الحديث من وجه آخر، أنه دخل وعندها جاريتان من الأنصار تغنيان بشعر قيل في يوم بعاث، وهو يوم من أيام الجاهلية مذكور. حدثنيه أبو عمرو الحيري، أنا الحسن بن سفيان، ثنا أحمد بن عيسى، ثنا ابن وهب، أنا عمرو: أن محمد بن عبد الرحمن حدثه، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث. وذكر الحديث.

قال أبو سليمان : والعرب تثبت مآثرها بالشعر، فترويها أولادها وعبيدها فيكثر إنشادهم لها وروايتهم إياها،  فيتناشده السامر في القمراء. والنادي بالفناء، والساقية على الركي والآبار، ويترنم به الرفاق إذا سارت بها الركاب، وكل ذلك عندهم غناء، ولم يرد بالغناء هاهنا ذكر الخنا، والابتهار بالنساء، والتعريض بالفواحش، وما يسميه المجان وأهل المواخير غناء.

والعرب تقول: سمعت فلانا يغني بهذا الحديث، أي يجهر به ويصرخ ولا يوري ولا يكني. وأخبرني أحمد بن عفو الله الشيرازي، نا عبد الله بن سليمان، نا يحيى بن عبد الرحيم الأعمش، نا أبو عاصم قال: أخذ بيدي ابن جريج [ ص: 656 ] ووقفني على أشعب الطماع، فقال: غن ابن أخي ما بلغ من طمعك فقال: بلغ من طمعي أنه ما زفت بالمدينة امرأة إلا كسحت بيتي رجاء أن يهدى إلي.

يقول: أخبر ابن أخي مجاهرا بذلك غير مساتر، ومن هذا قول ذي الرمة:


أحب المكان القفر من أجل أنني     به أتغنى باسمها غير معجم

أي: أجهر الصوت بذكرها، ولا أكني عنها حذار كاشح، أو خوفا من رقيب، وعلى هذا تأول بعض العلماء قوله صلى الله عليه: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن".  أي يجهر به، وقد يروى هذا التفسير مرفوعا أو موصولا بحديث مرفوع. فكل من رفع صوته بشيء ووالى به مرة بعد أخرى فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما شاق من صوت، أو شجا من نغمة ولحن، ولذلك قيل: غنت الحمامة وتغنى الطائر. قال المجنون:


أيا قاتل الله الحمامة غدوة     على الغصن ماذا هيجت حين غنت

وقال آخر:


تغنى الطائران ببين سلمى     على غصنين من غرب وبان

وأنشدني ابن داسة، أنشدني الزئبقي، أنشدني عبد الله بن شبيب لأعرابي من عبس باع ناقة له فسمع حنينها، وهي في سقيفة فقال:

[ ص: 657 ]

لعمري لئن أصبحت في دار تولب     يغنيك بالأسحار ديك قراقف
فلن تردي ماء الطوي ولن تري     أبانين ما غنى الحمام الهواتف

وعلى هذا المعنى جعلوا صلصلة الحديد، وأطيط الرحال غناء. وقال بعض المسجنين:


إذا شئت غناني الحديد وأوثقت     مصاريع من دوني تصم المناديا

وقال آخر:


ولي مسمعان وزمارة     وظل ظليل وحصن أمق

وأنشدني الأصمعي:


ما إن رأيت من مغنيات     ذوات آذان وجمجمات


أصبر منهن على الصمات



قال الأصمعي: هذا يصف إبلا. قال: وغناؤهن صريفهن بأنيابهن، وذلك من النشاط، فإذا ضجرت الإبل رغت. قال: والصمات هاهنا العطش.

وقال ابن الأعرابي: الغناء: أطيط الرحال. والصمات: السكوت، ومثل هذا في كلامهم كثير.

[ ص: 658 ] قال أبو سليمان : وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه رخص في غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق.

حدثنيه عبد الله بن محمد، أنا ابن الجنيد، نا محمد بن قدامة المروزي، أنا النضر بن شميل، أنا محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: خرجنا مع عمر في الحج حتى إذا كنا بالروحاء كلم القوم رباح بن المغترف، وكان حسن الصوت بغناء الأعراب، فقالوا له: أسمعنا وقصر عنا المسير. قال: إني أفرق عمر فقام أصحاب رسول الله إلى عمر فكلموه فقال: يا رباح، أسمعهم وقصر عنهم المسير، فإذا أسحرت فارفع فاك قال: فرفع عقيرته يتغنى.

فهذا وما أشبهه مما يدعى غناء لم ير به عمر بأسا، ولم ير فيه إثما ؛ لأنه حداء يقصر المسير ويحث المطي، ويخفف عن المسافر.

ونحو هذا قول نصيب أنشدنيه بعض أصحابنا، أنشدنا ابن دريد، أنشدنا أبو حاتم، أنشدتني أم الهيثم لنصيب:


فهل يمقتني الله في أن ذكرتها     وعللت أصحابي بها ليلة النفر
وطيرت ما بي من نعاس ومن كرى     وما بالمطايا من كلال ومن فتر



التالي السابق


الخدمات العلمية