الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه أنه قال: "لا يقولن أحدكم الكرم، فإن الكرم الرجل المسلم".  

[ ص: 664 ] أخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا سليمان بن داود، أنا ابن وهب، أخبرني الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة.

قوله: "إن الكرم الرجل المسلم" يريد الكريم، وقد ينعت الفاعل بالمصدر، كقولهم: رجل عدل، ورجل صوم، بمعنى صائم، ونوم بمعنى نائم، وقد ينعت به المفعول أيضا، كقولك رجل رضا، وهذا درهم ضرب الأمير.

وجاءني الخلق يريد المخلوقين، فإذا نعت الفاعل بالمصدر كان الواحد والجميع والمذكر والمؤنث فيه سواء.

يقال رجل كرم، وقوم كرم، وامرأة كرم، ونساء كرم؛ قال الشاعر:


وأن يعرين إن كسي الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف

أي: عن نساء كرائم.

والمعنى في تغييره عليه السلام هذا الاسم إلى غيره، أن الكرم عندهم اسم مشتق من الكرم، واسمه التليد عندهم، إنما هو الجفنة والحبلة، وهما أصل شجر الكرم؛ قال الأصمعي: الحبلة بفتح الباء، وجوز غيره الحبلة ساكنة الباء، والأسماء على ضربين؛ اسم مشتق، واسم موضوع، وإنما لقبوه كرما لأن شارب الخمر التي تتخذ من عصيره يتعاطى الكرم إذا شربها، كما سموها راحا لأن شاربها يرتاح للندى وينبسط للجود والسخاء، وقد قال بعض الشعراء:

[ ص: 665 ]

والكرم مشتقة المعنى من الكرم



وقال آخر يمدح رجلا بمعاقرة الخمر ويزعم أنها كرم:


حميد الذي أمج داره     أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
أتاه المشيب على شربها     فكان كريما فلم ينزع

وقال حسان بن ثابت:


لا تنفري يا ناق منه فإنه     شراب خمر مسعر لحروب

ومثل هذا في الشعر كثير.

فرأى عليه السلام أن في تسليم هذا الاسم لهم تقرير المعنى الذي تأولوه من الكرم فيها، وأشفق أن يكون حسن اسمها يدعوهم إلى شربها ويحسن لهم تناول المحرم منها، وفي النفوس من الشغف بها والميل إليها ما لا حاجة مع ذلك إلى أن تهز وتحرك بالثناء عليها، فلذلك رأى أن يسلبه هذا الاسم، وأن يسقطه عن رتبة الكرم، وجعله اسما للمسلم الذي يتقي شربها، ويرى الكرم في تركها، وكل ذلك تأكيد لحرمة الخمر، وتأبيد لها والله أعلم.

ونحو هذا حديث ابن عمر أنه كان يكره أن يقال السلم بمعنى السلف، [ ص: 666 ] وكان يقول: الإسلام لله عز وجل، ضن بالاسم الذي هو موضوع للطاعة أن يمتهن في غيرها، وصانه عن أن يبتذل فيما سواها.

وحدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك، نا بشر بن موسى، نا الحميدي، نا سفيان، نا سالم أبو النضر، عن رجل، عن أبي هريرة أن رجلا كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه كل عام راوية خمر فأهداها إليه عاما، وقد حرمت فقال: "إنها قد حرمت". قال الرجل: أفلا أبيعها ؟ قال: "لا". قال: أفلا أكارم بها اليهود؟ قال: "إن الذي حرمها حرم أن تكارم بها اليهود". قال كيف أصنع بها؟ قال: "سنها في البطحاء".

وفي غير هذه الرواية أنه كان يهدي إلى رجل من أصحاب النبي عليه السلام كل عام راوية خمر.

وقوله: سنها: أي صبها. والسن: الصب السهل.

التالي السابق


الخدمات العلمية