الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث عمر إنه قال : إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها [ ص: 123 ] .

أخبرني عبد الله بن محمد المسكي أنا علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال قول عمر إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فإن معنى الفلتة  الفجاءة وإنما كانت كذلك لأنه لم ينتظر بها العوام إنما ابتدرها أكابر أصحاب محمد من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التي كانت من بعضهم ثم أصفقوا له كلهم لمعرفتهم أن ليس لأبي بكر منازع ولا شريك في الفضل ولم يكن يحتاج في أمره إلى نظر ومشاورة فلهذا كانت فلتة قال وقال عمر : لا بيعة إلا عن مشورة وأيما رجل بايع عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا هذه حكاية قول أبي عبيد في كتابه .

قال أبو سليمان قد تكون الفلتة بمعنى الفجاءة وليست بالذي أراد عمر ولا لها موضع في هذا الحديث ولا لمعناها قرار هاهنا وحاش لتلك البيعة أن تكون فجاءة لا مشورة فيها ولست أعلم شيئا أبلغ في الطعن عليها من هذا التأويل . وكيف يسوغ ذلك وعمر نفسه يقول في هذه القصة لا بيعة إلا عن مشورة وأيما رجل بايع عن غير مشورة فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا [ ص: 124 ] .

وقد روينا عنه من غير هذا الوجه أنه قال : "من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من غير مشورة من المسلمين فاقتلوه " .

أخبرنا محمد بن هاشم نا الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن ليث عن واصل الأحدب عن المعرور بن سويد عن عمر . وثبت عنه أنه جعل الأمر بعد وفاته شورى بين النفر الستة فكيف يجوز عليه مع هذا أن تكون بيعته لأبي بكر ودعوته إليها إلا عن مشورة وتقدمة نظر هذا مما لا يشكل فساده ومما يبين ذلك أن الأخبار المروية في هذه القصة كلها دالة على أنها لم تكن فجاءة وأن المهاجرين والأنصار تآمروا لها وتراجعوا الرأي بينهم فيها .

أخبرنا ابن الأعرابي نا ابن أبي خيثمة نا معاوية بن عمرو نا زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال لما قبض رسول الله قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى عمر وقال : يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله أمر أبا بكر أن يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ؟ قالوا : نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر .

ومما يؤكد ذلك ويزيده وضوحا حديث سالم بن عبيد [ ص: 125 ] .

حدثناه جعفر الخلدي نا أحمد بن علي بن شعيب النسائي نا قتيبة وحدثناه أصحابنا عن إسحاق نا قتيبة نا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن سلمة بن نبيط عن نعيم بن أبي هند عن نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد . وذكر قصة موت رسول الله  قال : ثم خرج أبو بكر واجتمع المهاجرون فجعلوا يتشاورون بينهم قال ثم قالوا : انطلقوا إلى إخواننا من الأنصار فقالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير . فقال عمر سيفان في غمد إذا لا يصطلحان قال ثم أخذ بيد أبي بكر فقال له : من له هذه الثلاث إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا من صاحبه إذ هما في الغار من هما مع من قال ثم بايعه فبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها .

فتأمل قوله فجعلوا يتشاورون بينهم فإنه قد صرح بأنها لم تكن فجاءة وأن القوم لم يعطوا الصفقة إلا بعد التشاور والتناظر واتفاق الملأ منهم على التقديم لحقه والرضا بإمامته والأخبار في هذا الباب كثيرة وفيما أوردناه كفاية .

قال أبو سليمان وكلام أبي عبيد في الفصل الأول إذا تأملته تبينت منه نفس هذا المعنى وعلمت أنه إنما منع في الجملة ما أعطاه في التفصيل وذلك أنه قال إنما كانت بيعته فجاءة لأنه لم ينتظر بها العوام وإنما ابتدرها أكابر [ ص: 126 ] أصحاب رسول الله من المهاجرين وعامة الأنصار إلا تلك الطيرة التي كانت من بعضهم ثم أصفقوا له كلهم لمعرفتهم أن ليس لأبي بكر منازع ولا شريك في الفضل فتأمل كيف يقضي آخر كلامه على أوله وهل يشكل أن مثل الذي وصفه لا يكون فجاءة . قال ومعنى الحديث صحيح من حديث لا متعلق عليه لطاعن .

الفلتة عند العرب آخر ليلة من الأشهر الحرم .

.

أخبرني أبو عمر أنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال الفلتة الليلة التي يشك فيها كما يشك في اليوم فيقول قوم هي من شعبان ويقول قوم بل هي من رجب وبيان هذه الجملة أن العرب كانوا يعظمون الأشهر الحرم ويتحاجزون فيها فلا يتقاتلون يرى الرجل منهم قاتل أبيه فلا يمسه بسوء ولا ينداه بمكروه ولذلك كانوا يسمون رجبا شهر الله الأصم وذلك لأن الحرب تضع أوزارها فلا تسمع قعقعة سلاح ولا صوت قتال ويسمونه كذلك منصل الأسنة لأن الأسنة كانت تنزع من الرماح فلا يزال هذا دأبهم ما بقي من أشهر الحرم شيء إلى أن تكون آخر ليلة منها فربما يشك قوم فيقولون هي من الحل وبعضهم يقول بل هي من الحرم فيبادر الموتور الحنق في تلك الليلة فينتهز الفرصة في إدراك ثأره غير متلوم أن تنصرم عن يقين علم فيكثر الفساد في تلك الليلة وتسفك الدماء وتشن الغارات قال الشاعر يذكر ذلك [ ص: 127 ]

سائل لقيطا وأشياعها ولا تدعن وسلن جعفرا     غداة العروبة من فلتة
لمن تركوا الدار والمحضرا

يعيرهم بالمقام أيام السلم والفرار لما حل القتال .

وقال أبو داود الإيادي يصف خيلا :


والخيل ساهمة الوجوه     كأنما يقضمن ملحا
صادفن منصل آلة     في فلته فحوين سرحا

فشبه عمر أيام حياة رسول الله وما كان الناس عليه في عهده من اجتماع الكلمة وشمول الألفة ووقوع الأمنة بالشهر الحرام الذي لا قتال فيه ولا نزاع وكان موته شبيه القصة بالفلتة التي هي خروج من الحرم لما نجم عند ذلك من الخلاف وظهر من الفساد ولما كان من أمر أهل الردة ومنع العرب الزكاة وتخلف من تخلف من الأنصار عن الطاعة جريا منهم على عادة العرب في أن لا يسود القبيلة إلا رجل منهم فوقى الله شرها بتلك البيعة المباركة التي كانت جماعا للخير ونظاما للألفة وسببا للطاعة . وقد روينا نص هذا المعنى عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب .

.

أخبرني الحسن بن عبد الرحيم نا إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبو عبيدة السري بن يحيى قال شعيب بن عمر التميمي نا سيف بن عمر عن مبشر عن سالم بن عبد الله قال قال لي عمر كانت إمارة أبي بكر فلتة وقى الله شرها قلت وما الفلتة قال كان أهل الجاهلية يتحاجزون في الحرم فإذا كانت الليلة التي يشك فيها أدغلوا فأغاروا وكذلك كان يوم [ ص: 128 ] مات رسول الله أدغل الناس من بين مدع إمارة أو جاحد زكاة فلولا اعتراض أبي بكر دونها لكانت الفضيحة .

قال أبو سليمان وفي هذه القصة حرف قد يشكل معناه وهو قول عمر حين ازدحم الناس على مصافحة أبي بكر للبيعة فوثبوا على سعد وكان مضطجعا على فراشه فقال بعض الأنصار قتلتم سعدا فقال عمر "اقتلوه قتله الله" ومعناه والله أعلم أن هذه الكلمة جرت منه جوابا على مذهب المطابقة للفظ الأنصاري يريد بها إبطال معذرته في التثبيط عن البيعة مكان سعد ولم يقصد بها إيقاع الفعل وإنما قال اقتلوه بمعنى لا تبالوا بما ناله من الضغط والألم وأقبلوا على شأنكم وأحكموا أمر البيعة وهذا في مذهب المطابقة كقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فسمي الجزاء على العدوان عدوانا وإنما هو جزاء ومكافأة وليس بعدوان في الحقيقة وقال عمرو بن كلثوم :


ألا لا يجهلن أحد علينا     فنجهل فوق جهل الجاهلينا

يريد فنجازيه على جهله ونزيد عليه .

وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى اجعلوه كمن قتل واحسبوه في عداد من مات وهلك أي لا تعتدوا بمشهده ولا تعرجوا على قوله وذلك أن سعدا إنما أحضر ذلك المقام لأن ينصب أميرا على قومه على مذهب العرب في الجاهلية أن لا يسود القبيلة إلا رجل منها وكان حكم الإسلام خلاف ذلك فأراد [ ص: 129 ] عمر إبطاله بأغلظ ما يكون من القول وأبشعه وكل شيء أبطلت فعله وسلبت قوته فقد قتلته وأمته ولذلك قيل قتلت الشراب إذا مزجته لتقل سورته وتنكسر شدته قال حسان بن ثابت :


إن التي هاتيتني فرددتها     قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

وقال عمر في خطبته : "لا تأكلوا من هاتين الشجرتين إلا أن تميتوهما طبخا " . يريد البصل والثوم أي تنضجوهما طبخا فتضعف قوتهما وتذهب حدتهما وحرافتهما ولهذا قيل للبليد الذي لا حراك به ولا انبعاث له في الأمور أنه لميت وعلى هذا المعنى يتأول قول عمر من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من المسلمين فاقتلوه يريد والله أعلم اجعلوه كمن قتل أو مات بأن لا تقبلوا له قولا ولا تقيموا له دعوة وعلى مثل ذلك يتأول حديثه المرفوع أنه قال : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " .  

أخبرناه ابن الأعرابي أخبرنا إبراهيم بن الوليد الجشاش أخبرنا علي بن المديني أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث أخبرنا أبو هلال الراسبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله : "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" يريد بذلك أن يخلع وتلغى بيعته حتى يكون في عداد من قتل وبطل والله أعلم [ ص: 130 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية