الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث علي أنه كان تلعابة فإذا فزع فزع إلى ضرس حديد .

حدثت به عن المطين أخبرنا عثمان بن أبي شيبة أخبرنا وكيع عن علي بن صالح عن أبيه عن سعيد بن عمرو القرشي عن عياش الزرقي كذلك قاله عثمان .

وقال غيره عن عبد الله بن عياش .

قوله تلعابة من اللعب يريد أنه كان حسن الخلق يمزح ويلعب إذا خلا في خاصته قال العجير يمدح رجلا :


هو الظفر الميمون إن راح أو غدا به الركب والتلعابة المتحبب

ويقال رجل تلعابة مثل تقوالة وتلعابة مشددة والهاء تزاد في مثل هذه الأسماء للمبالغة في النعت .

ويروى عن علي أنه قال زعم ابن النابغة أني تلعابة أعافس وأمارس هيهات يمنع من العفاس والمراس خوف الموت وذكر البعث والحساب ومن كان له قلب ففي هذا عن هذا واعظ وزاجر . .

وقد فسرنا هذا فيما تقدم من الكتاب [ ص: 162 ] .

ويقال في هذا المعنى رجل لعبة بفتح العين إذا كان كثير التلعب والتمرس بالناس فإذا كان يتلعب به الناس ويولعون بمداعبته فهو لعبة ساكنة العين .

وقوله ضرس من حديد  فإن الضرس من الرجال الصعب الخلق يقال رجل ضرس إذا كان زعر الخلق ومكان ضرس إذا كان خشنا يعقر قوائم الدواب . ومنه قول دريد بن الصمة يوم حنين نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس .

ويقال ناقة ضروس وهي التي تمتنع عن الحالب وتعضه عند الحلب .

ورواه بعضهم فإذا فزع فزع إلى ضرس حديد على إضافة الضرس إلى الحديد كأنه يريد واحد الأضراس أو واحد الضروس وهي الآكام الخشنة ذوات الحجارة أي كأنه جبل من حديد .

وقد توهم من لا يبصر وجوه الكلام ولا يضع الأمور مواضعها أن هذا القول من واصفه طعن عليه وإزراء به وتعلق مع ذلك بقول عمر وقد سئل عنه للخلافة فقال : "لولا دعابة فيه " . والأمر في ذلك بحمد الله على خلاف ما توهمه ولم يذهب عمر في هذا إلى أن يعيبه بالمزاح وإنما أراد أن السائس قد يحتاج في سياسته إلى نوع من الشدة والغلظة ليخافه أهل الريبة وأن من هش لعامة الناس ولان جانبه لهم قلت هيبته في صدورهم .

وقد قيل من مرح استخف به وإنما هذا كقوله إن هذا الأمر لا يصلح له [ ص: 163 ] إلا الشديد في غير عنف اللين في غير ضعف وكان علي رضي الله عنه يوصف ببعض الفكاهة وهو أن يكون الإنسان فكه الحديث حلوه . والأصل في هذه الكلمة الإعجاب .

قال الفراء معنى قوله : فاكهين بما آتاهم ربهم معجبين بما آتاهم ربهم .

ويقال : فكه الرجل وتفكه إذا تعجب وأنشد :


ولقد فكهت من الذين تقاتلوا     يوم الخميس بلا سلاح ظاهر

وقد وصف رسول الله بأنه كانت فيه دعابة وكان يقول : "إني لأمزح ولا أقول إلا حقا" فكيف يعاب علي بشيء نعت به رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال بعض العلماء كان علي قد علق من أخلاق رسول الله وطيب كلامه فكان إذا خلا مع صاغيته مزح وانبسط وإذا رأى العدو قطب وعبس قال وأنشدنا ابن الأعرابي في نحو هذا يمدح رجلا :


يتلقى الندى بوجه صبيح     وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وذا تتم المعالي طرق     الجد غير طرق المزاح

وسئل بعض السلف عن مزح الرسول عليه السلام فقال كانت له مهابة فكان يبسط الناس بالدعابة [ ص: 164 ] .

وأخبرنا ابن الأعرابي أخبرنا الزعفراني أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة عن علي أنه قال إذا سمعتموني أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم عن غيره فإنما أنبأنا رجل محارب والحرب خدعة .

يريد أن الخداع في الحرب جائز ومعناه أن يظهر الرجل من أمره خلاف ما يضمره يريد بذلك أن يلبس أمره على عدوه لئلا يفطن لعوراته وأصل الخدع  الستر والإخفاء . ومنه سمي البيت الذي يخبأ فيه المتاع مخدعا . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الحرب خدعة " .

أخبرناه ابن الأعرابي أخبرنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي أخبرنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت كان نعيم رجلا نموما فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن يهود بعثت إلي إن كان يرضيك أن نأخذ رجالا رهنا من قريش وغطفان فندفعهم إليك فنقتلهم" فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فأخبرهم ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : "الحرب خدعة " .

ومن هذا الباب حديث النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث  الرجل يكذب أهله يرضيها والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما والرجل يكذب في الحرب" [ ص: 165 ] .

فأما ما أبيح من كذب الرجل لأهله  فهو مثل أن يقول لها إني لأحبك وإنك لمن أعز أهلي ونحو هذا من كلام الاستمالة ومثل أن يمنيها ويعدها يطيب نفسها بذلك .

وأما الكذب في الإصلاح بين الاثنين  فهو أن يرقق القول لهما وينمي الجميل إلى كل واحد منهما عن صاحبه وإن لم يكن سمعه منه يستعطف به قلوبهما وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرا أو نمى خيرا " . .

وأما الكذب في الحرب  فقد تقدم بيانه وإنما أبيح ذلك لأنه من باب المكيدة في الحرب للإبقاء على النفس وقد أرخص الله للمسلم إذا أكره على الكفر أن يعطي الفتنة بلسانه ويتكلم بها على التقية  ذبا عن مهجة نفسه ومحاماة على روحه .

.

وقال أبو سليمان وهاهنا أمور متقاربة في ظاهر الاسم متباينة في المعنى والحكم منها الغدر والفتك والمكر والكيد والغيلة فالغدر محرم في الحرب وغيرها وهو أن يؤمن الرجل ثم يغدر به فيقتله ومثله الفتك وقد جاء قيد الإيمان الفتك والمكر محرم في كل حال والكيد مباح في الحرب .

وأما الغيلة فهو أن يخدع الرجل فيخرجه من المصر إلى الجبانة أو من العمارة إلى الخراب فإذا خلا معه وثب عليه فقتله [ ص: 166 ] وفي قوله "الحرب خدعة" ثلاث لغات أعلاها خدعة بفتح الخاء . سمعت ابن الأعرابي يذكر عن ابن أبي مسرة عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار قال أهل العربية يقولون خدعة بالنصب .

.

وأخبرني أبو رجاء الغنوي أنبأنا أبو العباس ثعلب قال الحرب خدعة بلغنا أنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال بعض أهل اللغة معنى الخدعة المرة الواحدة أي من خدع فيها مرة لم يقل العثرة بعدها .

وروى يعقوب عن الكسائي وأبي زيد خدعة وخدعة ويقال إن الخدعة إنها تخدع الرجال وتمنيهم الظفر ثم لا تفي لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية