الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث عبد الله أنه قال: سرج في سبيل الله ورحل إلى بيت الله.

قال أبو عبيد: كأنه كره المحمل.

قال ابن قتيبة: المحامل إنما أحدثت في زمن الحجاج  فكيف يكره ابن مسعود ما لم يره ولم يحدث في زمانه.

قال أبو سليمان قد كانت المحامل قبل زمان الحجاج وإنما كان من الحجاج فيها أنه أمر بإحكام صنعتها والزيادة في قدرها والتوسيع لها لينام المسافر فيها فعلى هذا المعنى نسبت إليه والأمر في ذلك بين عند أصحاب المعرفة بالأخبار وأهل العناية فيها وفي ذلك يقول بعضهم:


ومحملا أترص حجاجيا

.

أي أحكم وسوي وكانوا قبل يسمون المحامل الملابن قال الراجز:


لا يحمل الملبن إلا الجرشع

[ ص: 262 ] يريد الضخم من الإبل ولم يزل من عادة العرب أن يتخذوا لأسفارهم المراكب والمشاجر والهوادج ويركب فيها الشيوخ والنساء والضعفة فأما الملابن فإنما كان يتخذها أهل الترفه والنعمة ومن مال إلى الدعة فيهم وكل هذه المراكب على اختلافها في القدر والسعة محامل وإن كانت قد تختلف في الأسماء لما لها من اختلاف الصنعة والتركيب والهيئة وإذا كانت هذه الأمور موجودة في الزمان الأول وكان معلوما أنهم إنما كانوا يتخذونها طلبا لراحة الدعة وهربا من تعب المشقة وكان الأمر في الرحل بخلافها لقلة ارتفاق المسافر به وعدم الدعة في ركوبه وكانت الإشارة من عبد الله للحاج إليه إنما هو لأن يقل حظه من الدعة والراحة وليمسه طرف من المشقة فيكون أفضل لحجه وأكثر لأجره فقد عقل أن الذي أحدثه الناس بعد من المحامل والكنائس والعماريات داخل تحت هذا المعنى الذي أشار عبد الله إليه ولاحق بحكمه فعلى هذا المعنى تأول أبو عبيد الحديث وأضاف إلى عبد الله كراهية المحمل وإن كان هذا النوع من المحامل غير موجود في زمانه.

ونظير هذا في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه قد نهى عن إسبال الإزار لأنه من المخيلة قال: "لا ينظر الله إلى رجل جر إزاره خيلاء"، وقال: "فضل الإزار في النار" وكان أكثر الناس في عهده إنما يلبسون الأردية والأزر فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة لباسهم القمص واتخذوا الدراريع وأذالوها واستعملوا محدث اللباس كان حكمها حكم الإزار في كراهة السدل والتذييل فكان للمستدل أن يستبدل فيها بخبر الإزار وأن [ ص: 263 ] يمد بحكمه عليها وأن يضيف النهي عنها والكراهية لها إلى رسول الله إذ كانت كلها داخلة في معنى ما نهى عنه من ذلك.

وقد قال ابن عمر ما قاله رسول الله في الإزار فهو في القميص.

وقال رجل: يا رسول الله ما الحاج، فقال: "الأشعث التفل" يريد أن من صفة الحاج  أن يهجر الطيب والدهن حتى يشعث بدنه وتتغير رائحته ولو استدل مستدل بها على أنه كره للحاج استعمال الغالية وتغليف رأسه بها لكان مصيبا في الاستدلال واضعا في موضعه وإن كانت الغالية إنما أحدثت بعد عصره بزمان طويل وإنما يذكر أنها صنعت لبعض ملوك بني مروان هشام أو غيره وأنهم لما رفعوا الحساب فيها وقد أكثروا النفقة عليها قال هذه غالية فلقبت بها.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وقد وكف مسجده ألا نرفع لك هذا المسجد ونصلحه فقال: "لا، عريش كعريش موسى".

فلو اقتضى مقتض من هذا نهيه عن تنجيد المساجد وتزويقها واتخاذها بمشاوب الذهب كان مصيبا في ذلك وإن لم يكن شيء منها معهودا في ذلك الزمان وإنما أحدث تزويق المساجد فيما يذكر الوليد بن عبد الملك، [ ص: 264 ] وأنكر فعله فيها أكثر العلماء ومثل هذا كثير والأمر فيه بين واضح إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية