والثاني  من أسباب الخلاف اتباع الهوى   
ولذلك سمي  أهل البدع أهل الأهواء   لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها ، والتعويل عليها ، حتى يصدروا عنها ، بل قدموا أهواءهم ، واعتمدوا على آرائهم ، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك ،      [ ص: 684 ] وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم ، أو طلبا للرياسة ، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ، ويتأول عليهم فيما أرادوا ، حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين .  
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم ، وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان ، وحشر الأجساد ، والنعيم والعذاب الجسميين ، وأنكروا رؤية الباري ، وأشباه ذلك ، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا ، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ، إلى غير ذلك من الشناعات .  
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات ، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة ، حرصا على أن يغلب عدوه ، أو يفيد وليه ، أو يجر إلى نفسه نفعا ، كما ذكروا عن  محمد بن يحيى بن لبابة  أخي الشيخ  ابن لبابة  المشهور ، فإنه عزل عن قضاء  البيرة   ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه ، وسجل بسخطته القاضي  حبيب بن زيادة  ، وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ، وأن لا يفتي أحدا .  
ثم إن  الناصر  احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى  بقرطبة   بعدوة النهر ، فشكا إلى القاضي   ابن بقي  ضرورته إليه لمقابلتهم منزهه ،      [ ص: 685 ] وتأذيه برؤيتهم أوان تطلعه من علاليه . فقال له   ابن بقي     : لا حيلة عندي فيه ، وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي ، وما أجزله من أضعاف القيمة فيه . فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة . فتكلم   ابن بقي  معهم فلم يجدوا إليه سبيلا ، فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر ، وتوبيخهم ، فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ، ولم يصل  الناصر  معهم إلى مقصوده .  
وبلغ  ابن لبابة  هذا الخبر فدفع إلى  الناصر  بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا . ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعارضة ، وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها . فوقع الأمر بنفس  الناصر  ، وأمر بإعادة  محمد بن لبابة  إلى الشورى على حالته الأولى ، ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة . فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء  ابن لبابة  آخرهم . وعرفهم القاضي   ابن بقي  بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعاوضة فيها .  
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ  وابن لبابة  ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا  أبا عبد الله  ؟ قال : أما قول إمامنا   مالك بن أنس  فالذي قاله أصحابنا الفقهاء . وأما  أهل  العراق    فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا ، وهم علماء أعلام يقتدي بهم أكثر الأمة ، وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به ، فما ينبغي أن يرد عنه ، وله في السنة فسحة ، وأنا أقول بقول  أهل  العراق    ، وأتقلد ذلك رأيا .  
فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول  مالك  الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه ، وهو رأي أمير المؤمنين      [ ص: 686 ] ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم   محمد بن يحيى     : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول  مالك  في خاصة أنفسكم . وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك ، فخذوا به مأخذكم ، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة . فسكتوا . فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي .  
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس ، وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا  محمد بن لبابة  ، وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجب ، وكانت عظيمة القدر جدا ، تزيد أضعافا على المجشر . ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى  ابن لبابة  بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعاوضة ، فهنئ بالولاية ، وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ، فلم يزل  ابن لبابة  يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة .  
قال القاضي  عياض     : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر ، فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة ، فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال .  
فتأملوا كيف اتباع الهوى ، وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :  
أحدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به ، لأن  أهل  العراق    لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ، ومن حكى عنهم ذلك ، فإما على      [ ص: 687 ] غير تثبيت ، وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه ، بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية .  
والثاني : أنه إن سلمنا صحته فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالصحبة والإمارة أو قضاء الحاجة ، إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا ، وهذا متفق عليه بين العلماء ، فكل  من اعتمد على تقليد قول غير محقق   ، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع ، عافانا الله من ذلك بفضله .  
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى ، كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث ، وسيأتي بيان ذلك بعد ، إن شاء الله .  
وقد ثبت بهذا وجه  اتباع الهوى ، وهو أصل الزيغ   عن الصراط المستقيم . قال الله تعالى :  هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ   ـ أي ميل عن الحق ـ  فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله   وقد تقدم معنى الآية ، فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه ، عكس ما عليه الحق في نفسه .  
وقد روي عن   ابن عباس  ـ رضي الله عنهما ـ وذكرت  الخوارج   عنده وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويهلكون عند متشابهه ، وقرأ   ابن عباس  الآية     . خرجه  ابن وهب     .  
 [ ص: 688 ] وقد دل على ذمة القرآن في قوله :  أفرأيت من اتخذ إلهه هواه   الآية ، ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم . حكى  ابن وهب  عن   طاوس  أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه ، وقال :  ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله   إلى غير ذلك من الآيات     . وحكى أيضا  عن   عبد الرحمن بن مهدي  أن رجلا سأل   إبراهيم النخعي  عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول . يعني ما كان عليه السلف الصالح     .  
وخرج عن   الثوري  أن رجلا أتى   ابن عباس  ـ رضي الله عنهما ـ ، فقال : أنا على هواك . فقال له   ابن عباس     : الهوى كله ضلالة : أي شيء أنا على هواك  ؟ .  
				
						
						
