فصل
إذا ثبت ما تقدم ؛ ورد الإشكال الثاني :
وهو أن ، وهو عين البدعة ، فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا : التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل ، وإذا خالفت ؛ فالمتعبد بها ـ على ذاك التقدير ـ متعبد بما لم يشرع
فإن انتظمتها أدلة الذم ؛ فهو غير صحيح ؛ لأمرين :
[ ص: 411 ] ( أحدهما ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كره ما كره ، وقال له : لعبد الله بن عمرو ؛ تركه بعد على التزامه ، ولولا أن إني أطيق أفضل من ذلك ، فقال له عليه السلام : لا أفضل من ذلك عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه ؛ لما التزمه وداوم عليه حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ ؛ لكان مقرا له على خطأ ، وذلك لا يجوز .
كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه ، فالصحابة رضي الله عنهم أتقى لله من ذلك .
وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه .
وإذا كان كذلك ؛ لم يمكن أن يقال : إنها بدعة .
( الثاني ) : أن العامل بها دائما بشرط الوفاء ؛ إن التزم الشرط ، فأداها على وجهها ؛ فقد حصل مقصود الشارع ، فارتفع النهي إذا ، فلا مخالفة للدليل ، فلا ابتداع إذا .
وإن لم يلتزم أداءها ، فإن كان باختيار ؛ فلا إشكال في المخالفة المذكورة ؛ كالناذر يترك المندوب بغير عذر ، ومع ذلك ؛ فلا يسمى تركه بدعة ، ولا عمله في وقت العمل بدعة ، ولا يسمى بالمجموع مبتدعا ، وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار ؛ فلا نسلم أنه مخالف ؛ كما لا [ يكون ] مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض ، كالصيام للمريض ، والحج لغير المستطيع ، فلا ابتداع إذا .
[ ص: 412 ] وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم ؛ فقد ثبت أن وليس من قبيل المصالح المرسلة ولا غيرها مما له أصل على الجملة ، وحينئذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا ؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة لا على التفصيل ؛ كتخصيص ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام فيها ، ويومه بالصيام ، أو بركعات مخصوصة ، وقيام ليلة أول جمعة من رجب ، وليلة النصف من شعبان ، والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام ، وما أشبه ذلك مما له أصل جلي ، وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله . من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه ، بل هو مما يتعبد به ،
والجواب :
عن الأول : أن الإقرار صحيح ، ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي ؛ فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ، ولا في ركن من أركانها ، وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع ؛ كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : " إن النهي عن الوصال إنما كان رحمة للأمة " ، وقد واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن تبعه في الوصال كالمنكل بهم ، ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل .
فانظر كيف ، لكن باعتبارين . اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه
ونظيره في الفقهيات ما يقوله جماعة من المحققين في ؛ فإنه نهي عنه لا من جهة كونه بيعا ، بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة ، فيجيزون البيع بعد الوقوع ، ويجعلونه فاسدا ، وإن وجد [ ص: 413 ] التصريح بالنهي فيه ، للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع ، بل إلى أمر يجاوره ، وبذلك يعلل جماعة ممن قال بفسخ البيع ؛ لأنه زجر للمتبايعين ، لا لأجل النهي عنه ، فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضا ، ولا النهي راجع إلى نفس البيع . البيع بعد نداء الجمعة
فالأمر بالعبادة شيء ، وكون المكلف يوفي بها أو لا شيء آخر ، فإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمرو على ما التزم دليل على صحة ما التزم ، ونهيه إياه ابتداء لا يدل على الفساد ، وإلا لزم التدافع ، وهو محال .
إلا أن هاهنا نظرا آخر ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمتبرع بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح ، فلما اتكل المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس ؛ صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص ، وإن كان بتأويل ، فإن سمي في اللفظ بدعة ؛ فبهذا الاعتبار ، وإلا ؛ فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة ، وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة .
ومن هنا قيل فيها : إنها بدعة إضافية لا حقيقية ، ومعنى كونها إضافية : أن الدليل فيها مرجوح بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها ، وراجح بالنسبة إلى من وفى بشرطها ، ولذلك وفى بها بعدما ضعف ، وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة ؛ بخلاف البدعة الحقيقية ؛ فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ؛ فضلا عن أن يكون مرجوحا . عبد الله بن عمرو
فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد ، فالقول فيهما متقارب ، [ ص: 414 ] وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى .
- وأما قول السائل في الإشكال : " إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها . . . " إلى آخره ؛ فصحيح ؛ إلا قوله : " فإن تركها لعارض ؛ فلا حرج ؛ كالمريض " ؛ فإن ما نحن فيه ليس كذلك ، بل ثم قسم آخر ، وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه ، وإن ظهر أن ليس من سببه ؛ فإن ترك الجهاد ـ مثلا ـ باختياره مخالفة ظاهرة ، وتركه لمرض أو نحوه لا مخالفة فيه ، فإن عمل في سبب يلحقه عادة بالمريض حتى لا يقدر على الجهاد ؛ فهذه واسطة بين الطرفين ، فمن حيث تسببه في المانع لا يكون محمودا عليه ، وهو نظير الإيغال في العمل الذي هو سبب في كراهية العمل أو في التقصير على الواجب ، وهذا المكلف قد خالف النهي ، ومن حيث وقع له الحرج المانع في العبادة من أدائها على وجهها ؛ قد يكون معذورا ، فصار هنا نظر بين نظرين ، لا يتخلص معه العمل إلى واحد منهما .
وأما قوله : " ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي عنه " ، فليس كما قال ، وذاك أن هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ، ويشبه المباح من جهة رفع الحرج على التارك ، فهو واسطة بين الطرفين ، لا يتخلى إلى واحد منهما ؛ إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطا كما شرطت في ناحية تركه شرطا : المندوب
، أو انخرام ما هو أولى منه ، وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف . فشرط العمل به : أن لا يدخل فيه مدخلا يؤديه إلى الحرج المؤدي إلى انخرام الندب فيه رأسا
[ ص: 415 ] فإذا دخل فيه ؛ فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا :
فإن كان كذلك ؛ فهو القسم الذي يأتي إن شاء الله ، وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج ، وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع ، مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ، ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة .
وإن دخل على غير ذلك القصد ؛ فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا :
فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ما هو أولى ( مما دخل فيه ) ؛ فهو محض السنة التي لا مقال فيها ؛ لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل ، إذ قد أمر فهو غير تارك ، ونهي عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز ، فلا إشكال في صحته ، وهو كان شأن ( السلف ) الأول ومن بعدهم .
وإن لم يجره على مجراه ، ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام والدوام ؛ فذلك الرأي مكروه ابتداء ، لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء الله ـ كفارة النهي ، فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة ؛ لأن الله مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا ، وإن لم يحصل الوفاء ؛ تمحض وجه النهي ، وربما أثم في الالتزام غير النذري .
ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ، لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه ، بل الدليل عليه قائم .
[ ص: 416 ] ولذلك ؛ إذا ، وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المنبه عليها ، لم يقع في نهي ، بل في محض المندوبات ؛ كالنوافل الرواتب مع الصلوات ، والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها ، والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار . . . وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ، ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه . التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلا
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ، ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ، ومضى عليه الناس ؛ لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه ، وفي شهر واحد من السنة لا دائما ، وموكولا إلى اختيارهم ؛ لأنه قال : " والتي ينامون عنها أفضل " ، وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل ، فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ، ومع ذلك ؛ فقد قال : " نعمت البدعة هذه " ، فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا ـ والله أعلم ـ إلى اعتبار الدوام ، وإن كان شهرا في السنة ، وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما ، أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل ، وإن كان ذلك في أصله واقعا كذلك ، فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحا ؛ قال : " نعمت البدعة هذه " ، فحسنها بصيغة " نعم " التي تقتضي من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب لو قال : ما أحسنها من بدعة ! وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة .
وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة مستشهدا بالآية ، حيث [ ص: 417 ] قال : " أحدثتم قيام رمضان ، ولم يكتب عليكم " ؛ إنما معناه ما ذكرناه ، ولأجله قال : " فدوموا عليه " ، ولو كان بدعة على الحقيقة ؛ لنهى عنه .
ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى عليه السلام عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل ، واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية ؛ تنبيها على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها ، حتى لا يغتر بها مغتر ، فيأخذها على غير وجهها ، ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياسا عليها ، ولا يدري ما عليه في ذلك ، وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا ، وكان ينبغي أن لا يفعل لولا الضرورة ، وبالله التوفيق .