فصل  
ويتعلق بهذا الموضع مسائل :  
إحداها : أن  تحريم الحلال   وما أشبه ذلك يتصور في أوجه :  
( الأول ) :  التحريم الحقيقي   ، وهو الواقع من الكفار ؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وجميع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض ، ومنه قوله تعالى :  ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب   ، وما أشبهه من التحريم      [ ص: 425 ] الواقع في الإسلام رأيا مجردا .  
( الثاني ) : أن يكون مجرد ترك ، لا لغرض ، بل لأن النفس تكرهه بطبعها ، أو لا تكرهه حتى تستعمله ، أو لا تجد ثمنه ، أو تشتغل بما هو آكد . . . وما أشبه ذلك ، ومنه ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأكل الضب ؛ لقوله فيه :  إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه  ، ولا يسمى مثل هذا تحريما ؛ لأن التحريم يستلزم القصد إليه ، وهذا ليس كذلك .  
( الثالث ) : أن يمتنع لنذره التحريم ، أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر ؛ كتحريم النوم على الفراش سنة ، وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد ، وتحريم اللين من الطعام واللباس ، وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة . . . وما أشبه ذلك .  
( الرابع ) : أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله ، ومثله قد يسمى تحريما .  
قال   إسماعيل القاضي     : " إذا  قال الرجل لأمته : والله لا أقربك   ؛ فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها ، وجبت عليه كفارة اليمين " ، وأتى بمسألة  ابن مقرن  في سؤاله   ابن مسعود     ( رضي الله عنه ) ؛ إذ قال :   " إني  حلفت أن لا أنام على فراشي سنة      . . . قال : فتلا عبد الله :  ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم   الآية ، ( وقال له ) : كفر عن يمينك ، ونم على فراشك     .  
 [ ص: 426 ] فأمره أن لا يحرم ما أحل الله له ، وأن يكفر من أجل اليمين .  
فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم ، وله وجه ظاهر ، فقد أشار  إسماعيل  إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال ؛ لم يجز له أن يفعله ، حتى نزلت كفارة اليمين ، فلأجل ما كان قبل من التحريم ولما وردت الكفارة ؛ سمي تحريما ، ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة .  
( الثانية ) : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم من تلك المعاني :  
أما الأول : فلا مدخل له هاهنا ؛ لأن التحريم تشريع كالتحليل ، والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع ، اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام ؛ فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله ، فضلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص .  
وقد وقع  للمهلب  في شرح   البخاري  ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول ، فقال : " التحريم إنما هو لله ولرسوله ، فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا ، وقد وبخ الله من فعل ذلك ، فقال :  لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا   ، فجعل ذلك من الاعتداء ، وقال :  ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب   ؛ قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء .  
وما قاله  المهلب  يرده السبب في نزول الآية ، وليس كما تقرر ، ولذلك      [ ص: 427 ] لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول ، فصار مقصورا على المحرم دون غيره .  
وأما التحريم بالمعنى الثاني ؛ فلا حرج فيه في الجملة ؛ لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم ، فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ، ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به ، حتى يحرمه على نفسه ، لا بمعنى التحريم الأول ، ولا الثالث ، بل بمعنى التوقي منه ؛ كما تتوقى سائر المؤلمات .  
ويدخل هاهنا بالمعنى  امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم   ؛ لأنه كان يناجي الملائكة ، وهي تتأذى من رائحتها ، وكذلك كل ما تكره رائحته .  
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع .  
والمعنيان متقاربان ، وكلاهما غير داخل في معنى الآية .  
وأما التحريم بالمعنى [ الثالث و ] الرابع ؛ فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم ، فيكون قوله ( تعالى ) :  لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم   ، قد شمل التحريم بالنذر والتحريم باليمين ، والدليل على ذلك ذكر      [ ص: 428 ] الكفارة بعدها بقوله تعالى :  فكفارته إطعام عشرة مساكين      . . . إلخ ، وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة ، وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى :  ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك      : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشرب العسل ، وسيأتي ذكر ذلك بحول الله .  
فإن قيل : هل يكون قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "  إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء     . . . الحديث ؛ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ؛ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به ، وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم في الحقيقة ، فكذلك هاهنا لا يريد بالتحريم النذر ، بل يريد به التوقي ، أي : إني أخاف على نفسي العنت ، وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي رضي الله عنه .  
فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقتما يتناول شيئا ؛ يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم ، والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرما له ، فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح ؛ لأنه في [ ذلك ] الوقت لا يشتهيه ، أو لغير ذلك من الأعذار ، حتى إذا زال عذره ؛ تناول منه ، وقد ترك عليه السلام أكل الضب ، ولم يكن تركه موجبا لتحريمه .  
والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر ، وأنه لا يصح وإن كان لعذر : أن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليه بالآية ، فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث ؛ لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر      [ ص: 429 ] أو غير عذر .  
وأيضا ؛ فإن  الانتشار للنساء   ليس بمذموم ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  من استطاع منكم الباءة فليتزوج     . . . الحديث ، فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة ؛ تزوج فحصل له ما في الحديث ؛ زيادة إلى النسل المطلوب في الملة ، فكأن محرم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية ، وكان ذلك منتفيا عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية .  
( والثالثة ) : أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى :  كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة   الآية ؛ فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالا ، ففيه دليل لجواز مثله .  
والجواب : أنه لا دليل في الآية ؛ لأن ما تقدم يقرر : أن لا تحريم في الإسلام ، فيبقى ما كان شرعا لغيرنا منفيا عن شرعنا ؛ كما تقرر في الأصول .  
خرج  القاضي إسماعيل  وغيره  عن   ابن عباس     ( رضي الله عنهما ) : " أن إسرائيل النبي  يعقوب   عليه السلام أخذه عرق النسا ، فكان يبيت وعليه زق ، فجعل عليه إن شفاه الله ؛ ليحرمن العروق ، وذلك قبل نزول التوراة     " .  
قالوا : " فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها " .  
وفي رواية : " جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل " ؛ قال :      [ ص: 430 ] فحرمته اليهود .  
وعن  الكلبي :  أن  يعقوب   عليه السلام قال : " إن الله شفاني لأحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال : ـ أحب الطعام أو الشراب إلي ، فحرم لحوم الإبل وألبانها     "  
قال  القاضي     : " الذي نحسب ـ والله أعلم ـ أن  إسرائيل   حين حرم على نفسه من الحلال ما حرم ؛ لم يكن في ذلك الوقت منهيا عن ذلك ، وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من الحلال ؛ لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين ، قال الله تعالى :  قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم   ، والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل : إن شاء الله ؛ كان بالخيار ، إن شاء فعل وكفر ، وإن شاء لم يفعل .  
قال : " وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ ، فكان الناسخ في هذا قوله ( تعالى ) :ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم      .  
قال : " فلما وقع النهي ؛ لم يجز للإنسان أن يقول : الطعام علي حرام . . . . وما أشبه ذلك من الحلال ، فإن قال إنسان شيئا من ذلك ؛ كان قوله باطلا ، وإن حلف على ذلك بالله ؛ كان له أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه " .  
 [ ص: 431 ]    ( الرابعة ) : أن نقول : مما يسأل عنه قوله تعالى :  يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك    ، الآية ؛ فإن فيها إخبارا بأنه عليه الصلاة والسلام حرم على نفسه ما أحله الله ، وقد نزل عليه :  لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا   ، ومثل هذا يجل ( مقام ) النبي صلى الله عليه وسلم عن مقتضى الظاهر فيه ، وأن يكون منهيا عنه ابتداء ثم يأتيه ، حتى يقال له فيه : لم تفعل ؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف .  
والجواب :  
أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود ؛ فظاهر أنها مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم :  
إذ لو أريد الأمة ـ على قول من قال من الأصوليين ـ ؛ لقال : لم تحرمون ما أحل الله لكم ؟ كما قال :  ياأيها النبي إذا طلقتم النساء      . . . ، الآية ، وهو بين ؛ لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب ، لذلك لما آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا بسبب هذه القصة ؛ نزل عليه في سورة الأحزاب :  ياأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن      . . . . ، إلخ .  
وأيضا فيحتمل التحريم بمعنى الحلف على أن لا يفعل ، والحلف إذا وقع ؛ فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله      [ ص: 432 ] ويكفر ، وقد جاء في آية التحريم :  قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم   ، فدل على أنه كان يمينا حلف عليه السلام بها .  
وذلك أن الناس اختلفوا في هذا التحريم :  
فقال جماعة : إن [ ما ] كان تحريما لأم ولده  مارية القبطية  ؛ بناء على أن الآية نزلت في شأنها ، وممن قال به  الحسن  وقتادة  و   الشعبي  و  نافع  مولى   ابن عمر     .  
أو كان تحريما لعسل  زينب ،  وهو قول  عطاء  وعبد الله بن عتبة     .  
وقال جماعة : إنما كان تحريما بيمين .  
قال   إسماعيل بن إسحاق     : " يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حرمها ـ يعني : جاريته ـ بيمين الله ؛ لأن الرجل إذا قال لأمته : والله لا أقربك ؛ فقد حرمها على نفسه باليمين ، فإذا غشيها ؛ وجبت عليه كفارة اليمين " ، ثم أتى بمسألة  ابن مقرن . 
 ويمكن أن يكون السبب شرب العسل ، وهو الذي وقع في   البخاري  من طريق  هشام  عن   ابن جريج  قال فيه : " شربت عسلا عند   زينب بنت جحش ،  فلن أعود له ، وقد حلفت ، فلا تخبري بذلك أحدا     " ، وإذا كان كذلك ؛ فلم يبق في المسألة إشكال ، ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم ؛ لأن تحريم الجارية كيف ( ما ) كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب .  
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم ؛      [ ص: 433 ] فيحتمل وجهين كالأول :  
( أحدهما ) : أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف .  
( والثاني ) : أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن قوله تعالى :  ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا   لا يدخل فيه ؛ بناء على قول من قال بذلك من الأصوليين ، وعند ذلك لا يبقى في القضية ما ينظر فيه ، ولا يكون للمحتج بالآية متعلق ، والله أعلم .  
				
						
						
