فصل  
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية :  أن يكون أصل العبادة      [ ص: 486 ] مشروعا ؛ إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل   توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل ، وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي ، أو يطلق تقييدها ، وبالجملة ؛ فتخرج عن حدها الذي حد لها .  
ومثال ذلك أن يقال : إن الصوم في الجملة مندوب إليه ؛ لم يخصه الشارع بوقت دون وقت ، ولا حد فيه زمانا دون زمان ، ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص ؛ كالعيدين ، وندب إليه على الخصوص ؛ كعرفة وعاشوراء بقول ، فإذا خص منه يوما من الجمعة بعينه ، أو أياما من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع ـ ؛ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف ؛ كيوم الأربعاء مثلا في الجمعة ، والسابع والثامن في الشهر . . . وما أشبه ذلك ؛ بحيث لا يقصد بذلك وجها بعينه مما لا ينثني عنه ، فإذا قيل له : لم خصصت تلك الأيام دون غيرها ؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم ، أو يقول : إن الشيخ الفلاني مات فيه . . . أو ما أشبه ذلك ؛ فلا شك أنه رأي محض بغير دليل ، ضاهى به تخصيص الشارع أياما بأعيانها دون غيرها ، فصار التخصيص من المكلف بدعة ، إذ هي تشريع بغير مستند .  
ومن ذلك  تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا   ؛ كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات ، أو بصدقة كذا وكذا ، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة ، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به ؛ إذا لم يكن بحكم الوفاق ، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ؛ كان تشريعا زائدا .  
 [ ص: 487 ] ولا حجة له في أن يقول : إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره ، فيحسن فيه إيقاع العبادات ؛ لأنا نقول : هذا الحسن ؛ هل ثبت له أصل أم لا ؟ فإن ثبت فمسألتنا ؛ كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصيام الاثنين والخميس ، فإن لم يثبت ؛ فما مستندك فيه والعقل لا يحسن ولا يقبح ، ولا شرع يستند إليه ؟ فلم يبق إلا أنه ابتداع في التخصيص ؛ كإحداث الخطب ، وتحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان .  
ومن ذلك  التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل مغزاه   ؛ فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها ، فسامعها ؛ إما أن يفهمها على غير وجهها ، وهو الغالب ، وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق ، وإلى العمل بالباطل ، وإما لا يفهم منها شيئا ، وهو أسلم ، ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون ، بل صار التحدث بها كالعابث بنعمة الله ، ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها ؛ كان من باب التكليف بما لا يطاق .  
وقد جاء النهي عن ذلك ، فخرج  أبو داود  حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم :  أنه نهى عن الأغلوطات ، قالوا : وهي صعاب المسائل ، أو شرار      [ ص: 488 ] المسائل     .  
وفي  الترمذي  ـ أو غيره ـ :  أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! أتيتك لتعلمني من غرائب العلم ، فقال عليه السلام : " ما صنعت في رأس العلم ؟ " قال : وما رأس العلم ؟ قال : " هل عرفت الرب ؟ " قال : نعم ، قال : فما صنعت في حقه ؟ قال : ما شاء الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب فأحكم ما هنالك ، ثم تعال أعلمك من غرائب العلم     .  
وهذا المعنى هو مقتضى الحكمة ، لا تعلم الغرائب إلا بعد إحكام      [ ص: 489 ] الأصول ، وإلا دخلت الفتنة .  
وقد قالوا في العالم الرباني : إنه الذي يربي بصغار العلم قبل كباره .  
وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور ، وقد ترجم على ذلك   البخاري  ، فقال : باب : من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا .  
ثم أسند  عن   علي بن أبي طالب  رضي الله عنه : أنه قال :  حدثوا ( الناس ) بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟      .  
ثم ذكر حديث  معاذ  الذي أخبر به عند موته تأثما ، وإنما لم يذكره إلا عند موته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن له في ذلك ؛ لما خشي من تنزيله غير منزلته ، وعلمه  معاذا  لأنه من أهله .  
وفي  مسلم  عن   ابن مسعود     ( رضي الله عنه ) ؛ قال : " ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة     " .  
قال  ابن وهب     : وذلك أن يتأولوه غير تأويله ، ويحملوه على غير وجهه .  
وخرج  شعبة  عن   كثير بن مرة الحضرمي  أنه قال : إن عليك في علمك حقا كما أن عليك في مالك حقا ، لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل ، ولا تمنع العلم أهله فتأثم ، ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ، ولا      [ ص: 490 ] تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك     .  
وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم ، وبسطوه بسطا شافيا والحمد لله ، وإنما نبهنا عليه ؛ لأن كثيرا ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم ، وهو على خلاف الشرع ، وما كان عليه سلف هذه الأمة .  
ومن ذلك أيضا جميع ما تقدم في فضل السنة التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة ، من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة .  
ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة ؛ فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه ، ولا أن يخص من القرآن شيء دون شيء ؛ لا في صلاة ، ولا في غيرها ، فصار المخصص لها عاملا برأيه في التعبد لله .  
وخرج   ابن وضاح  عن  مصعب  ، قال :  سئل  سفيان  عن رجل يكثر قراءة :  قل هو الله أحد   ؛ لا يقرأ غيرها كما يقرؤها ؟ فكرهه ، وقال : إنما أنتم متبعون ، فاتبعوا الأولين ، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا ، وإنما أنزل القرآن ليقرأ ، ولا يخص شيء دون شيء     .  
وخرج أيضا ـ وهو في " العتبية " من سماع  ابن القاسم  ـ  عن  مالك     ( رحمه الله ) أنه سئل على  قراءة  قل هو الله أحد   ، مرارا في الركعة      [ ص: 491 ] الواحدة   ؟ فكره ذلك ، وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا     .  
ومحمل هذا عند  ابن رشد  من باب الذريعة ، ولأجل ذلك لم يأت مثله عن السلف ، وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما في الصحيح ـ وهو صحيح ؛ فتأمله في الشرح .  
وفي الحديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل محدث في مشروع الأصل ؛ بناء على ما قاله  ابن رشد  فيه .  
ومن ذلك قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبها بأهل  عرفة .   
ونقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعله قدام الإمام .  
ففي " سماع  ابن القاسم     " ، وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة : أيخطب بهم ؟ قال : نعم !  لا تكون الجمعة إلا بخطبة   ، فقيل له : أفيؤذن قدامه ؟ قال : لا ، واحتج على ذلك بفعل  أهل  المدينة      .  
 قال  ابن رشد     :  الأذان بين يدي الإمام في الجمعة   مكروه ؛ لأنه محدث .  
قال : وأول من أحدثه   هشام بن عبد الملك  ، وإنما  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم      [ ص: 492 ] إذا زالت الشمس وخرج ؛ رقى المنبر ، فإذا رآه المؤذنون ـ وكانوا ثلاثة ـ ؛ قاموا ، وأذنوا في المشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن في غير الجمعة ، فإذا فرغوا ؛ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته  ، ثم تلاه  أبو بكر  وعمر     ( رضي الله عنهما ) ، فزاده  عثمان     ( رضي الله عنه ) ـ لما كثر الناس ـ أذانا  بالزوراء   عند زوال الشمس ، يؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت ، وترك الأذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه ، فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان  هشام  ، فنقل الأذان الذي كان  بالزوراء   إلى المشرفة ، ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه ، وأمرهم أن يؤذنوا صفا ، وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا .  
قال  ابن رشد     : وهو بدعة .  
قال : والذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده هو السنة .  
وذكر  ابن حبيب  ما كان فعله عليه السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر  ابن رشد  ، وكأنه نقله من كتابه ، وذكر قصة  هشام  ، ثم قال : والذي كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السنة ، وقد حدثني   أسد بن موسى  ، عن   يحيى بن سليم  ، عن  جعفر بن محمد بن جابر بن عبد الله     : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته : "  أفضل الهدي هدي  محمد ،   وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة     " . .  
وما قاله  ابن حبيب  من أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقيا في زمن  عثمان  رضي الله عنه موافق لما نقله أرباب النقل الصحيح ،      [ ص: 493 ] وأن  عثمان  لم يزد على ما كان قبله إلا الأذان على  الزوراء ،   فصار إذا نقل  هشام  الأذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع .  
فإن قيل : فكذلك أذان  الزوراء   محدث أيضا ، بل هو محدث من أصله ، غير منقول من موضعه ، فالذي يقال هنا يقال مثله في أذان  هشام  ، بل هو أخف منه .  
فالجواب : أن أذان  الزوراء   وضع هنالك على أصله من الإعلام بوقت الصلاة ، وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله ، فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم ، فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد ، وحين كان مقصود الأذان الإعلام ؛ فهو باق كما كان ، فليس وضعه هنالك بمناف ، إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة ، ولا ثبت أن الأذان بالمنار أو في سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى ، فهو الملائم من أقسام المناسب ؛ بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام ؛ فإنه قد أخرج بذلك أولا عن أصله من الإعلام ، إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة ، وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله ، ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية ، فالفرق بين الموضعين واضح ، ولا اعتراض بأحدهما على الآخر .  
ومن ذلك  الأذان والإقامة في العيدين   ؛ فقد نقل   ابن عبد البر  اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما ، ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل ، وإنما الأذان للمكتوبات ، وعلى هذا مضى عمل الخلفاء :  أبي بكر  وعمر  وعثمان  وعلي  ، وجماعة الصحابة رضي الله عنهم ، وعلماء التابعين ، وفقهاء الأمصار ، وأول من أحدث الأذان والإقامة في      [ ص: 494 ] العيدين فيما ذكر  ابن حبيب  ـ   هشام بن عبد الملك  ، أراد أن يؤذن الناس بالأذان بمجيء الإمام ، ثم بدأ بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ، ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ؛ ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة ؛ لبعدهم عنه .  
( قال ) : ولم يرد  مروان  وهشام     [ إلا ] الاجتهاد فيما رأيا ؛ إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .  
( قال ) : وقد حدثني   ابن الماجشون     : أنه  سمع  مالكا  يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها ؛ فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ؛ لأن الله يقول :  اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا   ، فما لم يكن يومئذ دينا ؛ فلا يكون اليوم دينا     .  
وقد روي أن الذي أحدث الأذان  معاوية  ، وقيل :  زياد  ، وأن  ابن الزبير  فعله آخر إمارته ، والناس على خلاف هذا النقل .  
ولقائل أن يقول : إن الأذان هنا نظير أذان  الزوراء   لعثمان  رضي الله عنه ، فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادي جار هنا ، ولا يكون بسبب ذلك مخالفا للسنة ؛ لأن قصة  هشام  نازلة لا عهد بها فيما تقدم ؛ لأن الأذان إعلام بمجيء الإمام ؛ لخفاء مجيئه عن الناس ؛ لبعدهم عنه ، ثم الإقامة للإعلام بالصلاة ، إذ لولا هي ؛ لم يعرفوا دخوله في الصلاة ، فصار ذلك أمرا لا بد منه ؛ كأذان  الزوراء      .  
 [ ص: 495 ] والجواب : أن مجيء الإمام لم يشرع فيه الأذان ، وإن خفي على بعض الناس ؛ لبعده بكثرة الناس ؛ فكذلك لا يشرع فيما بعد ؛ لأن العلة كانت موجودة ، ثم لم تشرع ، إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة .  
وأيضا ؛ فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة ، وما انبنى على المحدث محدث .
ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا إقامة على حال ؛ فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض ؛ لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها ، فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلا .  
وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان  الزوراء   وبين ما نحن فيه ، فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر ، والأمثلة في هذا المعنى كثيرة .  
ومن نوادرها التي لا ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جملة ممن ينتمي إلى  طريقة الصوفية من تربصهم ببعض العبادات أوقاتا مخصوصة   غير ما وقته الشرع فيها ، فيضعون نوعا من العبادات المشروعة في زمن الربيع ، ونوعا آخر في زمن الصيف ، ونوعا آخر في زمن الخريف ، ونوعا آخر في زمن الشتاء . . . . وربما وضعوا لأنواع من العبادات لباسا مخصوصا وطيبا مخصوصا . . . . وأشباه ذلك من الأوضاع الفلسفية يضعونها [ على مقاصد ] شرعية ؛ أي : متقربا بها إلى الحضرة الإلهية في زعمهم ، وربما وضعوها على مقاصد غير شرعية ؛ كأهل التصريف بالأذكار والدعوات ؛ ليستجلبوا [ ص: 496 ] بها الدنيا من المال والجاه والحظوة ورفعة المنزلة ، بل ليقتلوا بها إن شاؤوا أو يمرضوا أو يتصرفوا وفق أغراضهم .  
فهذه كلها بدع محدثات ، بعضها أشد من بعض ؛ لبعد هذه الأغراض عن مقاصد الشريعة الإسلامية الموضوعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين ، مطهرة لمن تمسك بها عن أوضار اتباع الهوى ، إذ كل متدين بها عارف بمقاصدها ينزهها عن أمثال هذه المقاصد الواهية ، فالاستدلال على بطلان دعاويهم فيها من باب شغل الزمان بغير ما هو أولى ، وقد تقرر ـ بحول الله ـ في أصل المقاصد من كتاب الموافقات ما يؤخذ منه حكم هذا النمط والبرهان على بطلانه ، لكن على وجه كلي مفيد ، وبالله التوفيق .  
وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعا ،  فإن كان أصلها غير مشروع ؛ فهي بدعة حقيقية مركبة   ؛  كالأذكار والأدعية [ التي ] يزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف   ، وهو الذي اعتنى به  البوني  وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه . فإن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول ، وهو  أرسطا طاليس  ، فردوها إلى أوضاع الحروف ، وجعلوها هي الحاكمة في العالم ، وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحري الأوقات والأحوال الملائمة لطبائع الكواكب ؛ ليحصل التأثير عندهم وحيا .  
فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ ، وتوجهوا شطرها ، وأعرضوا عن رب العقل والطبائع ، وإن ظنوا أنهم يقصدونه اعتقادا في استدلالهم لصحة ما انتحلوا على وقوع الأمر وفق ما يقصدون ، فإذا توجهوا بالذكر      [ ص: 497 ] والدعاء المفروض على الغرض المطلوب حصل ، سواء عليهم أنفعا ( كان ) أو ضرا ، وخيرا كان أم شرا ، ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية في إجابة الدعاء ، أو حصل نوع من كرامات الأولياء ، كلا ! ليس طريق ذلك التأثير من مرادهم ، ولا كرامات الأولياء أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم ، فلا تلاقي بين الأرض والسماء ، ولا مناسبة بين النار والماء .  
فإن قلت : فلم يحصل التأثير حسبما قصدوا ؟  
فالجواب : إن ذلك في الأصل من قبيل الفتنة التي اقتضاها في الخلق :  ذلك تقدير العزيز العليم   ، فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس ، يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات ، على نحو ما يظهر على المعين عند الإصابة ، وعلى المسحور عند عمل السحر ، بل هو بالسحر أشبه ؛ لاستمدادهما من أصل واحد .  
وشاهده ما جاء في الصحيح خرجه  مسلم  من حديث   أبي هريرة  رضي الله عنه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  إن الله يقول : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني ( وفي بعض الروايات : أنا عند ظن عبدي بي ، فليظن بي ما شاء  ، وشرح هذه المعاني لا يليق بما نحن فيه .  
والحاصل : أن وضع الأذكار والدعوات ، على نحو ما تقدم من البدع المحدثات ، لكن تارة تكون البدعة فيها إضافية ، باعتبار أصل المشروعية ،      [ ص: 498 ] وتارة تكون حقيقية .  
				
						
						
