وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي ، وقد ثبت التفاوت في المعاصي ، فكذلك يتصور مثله في البدع . فمنها ما يقع في الضروريات ( أي أنه إخلال بها ) ، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ، ومنها ما يقع في رتبة التحسينات ، وما يقع في رتبة الضروريات ، منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال .
فمثال وقوعه في الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة
إبراهيم عليه السلام ، من نحو قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام فروي عن المفسرين فيها أقوال كثيرة ، وفيها عن
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب أن البحيرة من الإبل هي التي يمنح درها للطواغيت ، والسائبة هي التي يسيبونها لطواغيتهم ، والوصيلة هي الناقة تبكر بالأنثى ثم تثني بالأنثى ، يقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فيجدعونها لطواغيتهم ، والحامي هو الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدودة ، فإذا بلغ ذلك قالوا :
[ ص: 519 ] حمي ظهره ، فيترك فيسمونه الحامي .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12425إسماعيل القاضي عن
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير عهد إبراهيم عليه السلام . قال : قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : عمرو بن لحي أبو بني كعب ، لقد رأيته يجر قصبه في النار ، يؤذي ريحه أهل النار ، وإني لأعرف أول من بحر البحائر ، قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : رجل من بني مدلج ، وكانت له ناقتان ، فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار هو وهما يعضانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما .
وحاصل ما في هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه ، مع كونه حلالا بحكم الشريعة المتقدمة . ولقد هم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحرموا على أنفسهم ما أحل الله ، وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها ، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
[ ص: 520 ] وسيأتي شرح هذه الآية في الباب السابع ـ إن شاء الله تعالى ـ وهو دليل على أن تحريم ما أحل الله ـ وإن كان بقصد سلوك طريق الآخرة ـ منهي عنه ، وليس فيه اعتراض على الشرع ، ولا تغيير له ، ولا قصد فيه الابتداع ، فما ظنك به إذا قصد به التغيير والتبديل كما فعل الكفار ، أو قصد فيه الابتداع في الشريعة ، وتمهيد سبيل الضلالة ؟ !
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي ، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي ، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ . فَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي الضَّرُورِيَّاتِ ( أَيْ أَنَّهُ إِخْلَالٌ بِهَا ) ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ ، وَمِنْهَا مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينِاتِ ، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ ، مِنْهُ مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ النَّسْلِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْمَالِ .
فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدِّينِ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=103مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ فَرُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ، وَفِيهَا عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الْبَحِيرَةَ مِنَ الْإِبِلِ هِيَ الَّتِي يُمْنَحُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ ، وَالسَّائِبَةُ هِيَ الَّتِي يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ ، وَالْوَصِيلَةُ هِيَ النَّاقَةُ تُبَكِّرُ بِالْأُنْثَى ثُمَّ تُثَنِّي بِالْأُنْثَى ، يَقُولُونَ : وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ ، فَيَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ ، وَالْحَامِي هُوَ الْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ الضِّرَابَ الْمَعْدُودَةَ ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ قَالُوا :
[ ص: 519 ] حَمِيَ ظَهْرُهُ ، فَيُتْرَكُ فَيُسَمُّونَهُ الْحَامِيَ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12425إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=15944زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إِنِّي لِأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . قَالَ : قَالُوا : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ أَبُو بَنِي كَعْبٍ ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ ، يُؤْذِي رِيحُهُ أَهْلَ النَّارِ ، وَإِنِّي لِأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ ، قَالُوا : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ ، وَكَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ ، فَجَدَعَ أُذُنَيْهِمَا وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا ، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ هُوَ وَهُمَا يَعُضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا .
وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِهِ إِلَيْهِ ، مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ . وَلَقَدْ هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَرِّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّهِ عَنِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا وَشَوَاغِلِهَا ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=87يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .
[ ص: 520 ] وَسَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ـ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ـ وَإِنْ كَانَ بِقَصْدِ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّرْعِ ، وَلَا تَغْيِيرٌ لَهُ ، وَلَا قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فَعَلَ الْكُفَّارُ ، أَوْ قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَتَمْهِيدُ سَبِيلِ الضَّلَالَةِ ؟ !