ومثال  ما يقع في العقل   ، أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله ، ولذلك قال تعالى :  وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا   وقال تعالى :  فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول   وقال :  إن الحكم إلا لله   وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث .  
 [ ص: 527 ] فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع ، وأنه محسن ومقبح ، فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه .  
ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ، ونزل من القرآن ـ في شأن من مات قبل التحريم وهو ويشربها ـ قوله تعالى :  ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا      . الآية . تأولها قوم ـ فيما ذكر ـ على أن الخمر حلال ، وأنها داخلة تحت قوله : فيما طعموا .  
فذكر   إسماعيل بن إسحاق  عن  علي  ـ رضي الله عنه ـ ، قال : شرب نفر من  أهل الشام   الخمر وعليهم   يزيد بن أبي سفيان  ، فقالوا : هي لنا حلال . وتأولوا هذه الآية :  ليس على الذين آمنوا   الآية . قال فكتب فيهم إلى  عمر     .  
قال : فكتب  عمر  إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك ، فلما قدموا إلى  عمر  استشار فيهم الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم ،  وعلي  ـ رضي الله عنه ـ ساكت ، قال : فما تقول يا  أبا الحسن  ؟ فقال : أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر ، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم ، فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به     .  
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب ، وشهد فيهم  علي  ـ رضي الله عنه ـ ، وغيره من الصحابة ، بأنهم شرعوا في دين الله ، وهذه هي      [ ص: 528 ] البدعة بعينها ، فهذا وجه .  
وأيضا ; فإن بعض الفلاسفة الإسلاميين تأول فيها غير هذا ، وأنه إنما يشربها للنفع لا للهو ، وعاهد الله على ذلك ، فكأنها عندهم من الأدوية أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة . ويحكى هذا العهد عن   ابن سينا     .  
ورأيت في بعض كلام الناس ممن عرف عنه أنه كان يستعين في سهره للعلم والتصنيف والنظر بالخمر ، فإذا رأى من نفسه كسلا أو فترة شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل ، بل ذكروا فيها أن لها حرارة خاصة تفعل أفعالا كثيرة تطيب النفس ، وتصير الإنسان محبا للحكمة ، وتجعله حسن الحركة ، والذهن ، والمعرفة ، فإذا استعملها على الاعتدال عرف الأشياء ، وفهمها ، وتذكرها بعد النسيان .  
فلهذا ـ والله أعلم ـ كان   ابن سينا  لا يترك استعمالها ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلال مبين ، عياذا بالله من ذلك .  
ولا يقال : إن هذا داخل تحت مسألة التداوي بها . وفيها خلاف شهير ، لأنا نقول : إنما ثبت عن   ابن سينا  أنه كان يستعملها استعمال الأمور المنشطة من الكسل والحفظ للصحة ، والقوة على القيام بوظائف الأعمال ، أو ما يناسب ذلك ، لا في الأمراض المؤثرة في الأجسام . وإنما الخلاف في استعمالها في الأمراض لا في غير ذلك ، فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة الله مبتدعون فيها ، وقد تقدم رأي أهل الإباحة في الخمر وغيرها ، ولا توفيق إلا بالله .  
				
						
						
