إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة ، وأن منها ما هو مكروه ، كما أن منها ما هو محرم ، فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كل بدعة ضلالة .
لكن يبقى هاهنا إشكال ، وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وقوله
[ ص: 531 ] nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36ومن يضلل الله فما له من هاد nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=37ومن يهد الله فما له من مضل وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال . فإنه يقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع ، فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى .
ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع ، المكروهة من الأفعال ، كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة ، والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك .
ونظيره في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005449نهينا عن اتباع الجنائز ولم يحرم علينا فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص ، مع أن الطاعة ضدها المعصية . وفاعل المندوب مطيع لأنه فاعل أمر به . فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا لأنه فاعل ما نهي عنه ، لكن ذلك غير صحيح ، إذ لا يطلق عليه عاص ، فكذلك لا يكون
nindex.php?page=treesubj&link=20424فاعل البدعة المكروهة ضالا ، وإلا فلا فرق بين اعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى ، فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية ،
[ ص: 532 ] وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة ، كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية .
إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ، فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه ، لكن هذا باطل ، فما لزم عنه كذلك . والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة
والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم ، فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ، ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهي المباح ، وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح .
فالأمر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها التخيير .
وإذا تأملنا
nindex.php?page=treesubj&link=20424_20575المكروه ـ حسبما قرره الأصوليون ـ وجدناه ذا طرفين :
طرف من حيث هو منهي عنه ، فيستوي مع المحرم في مطلق النهي ، فربما يتوهم أن مخالفة نهي الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة .
غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر ، وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب ، فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه ، لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب ، فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية .
وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع ، وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فماذا بعد الحق إلا الضلال فليس إلا حق ، وهو الهدى ، وضلال وهو الباطل ، فالبدع
[ ص: 533 ] المكروهة ضلال .
وأما ثانيا : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه ، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع ، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة ، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص .
أما الشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على من قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005450أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الآخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005451أما أنا فلا أنكح النساء إلى آخر ما قالوا ، فرد عليهم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005189من رغب عن سنتي فليس مني .
وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر ، وكذلك ما في الحديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005452أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليجلس وليستظل وليتم صومه قال
مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية .
ويعضد هذا الذي قاله
مالك ما في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري عن قيس بن أبي حازم ،
[ ص: 534 ] قال دخل
أبو بكر على امرأة من
أحمس يقال لها
زينب فرآها لا تتكلم ، فقال : ما لها فقال حجت مصمتة قال لها : تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية فتكلمت الحديث إلخ .
وقال
مالك أيضا في قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005453من نذر أن يعصي الله فلا يعصه إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى
الشام وإلى
مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة ، أو أن لا أكلم فلانا ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة ، وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة ، فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره .
فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي ، حتى فسر فيها الحديث المشهور ، مع أنها في أنفسها أشياء مباحات ، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند
مالك معاصي لله ، وكلية قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كل بدعة ضلالة شاهدة لهذا المعنى ، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ، وهي خاصية المحرم .
وقد مر ما
روى nindex.php?page=showalam&ids=14413الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! من أين أحرم ؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد : فقال : لا تفعل . قال : غني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة . قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إني سمعت الله [ ص: 535 ] تعالى يقول : nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم .
فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه ، وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ، لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله ، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادئ الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، واستدل بالآية . فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند
مالك ـ في معنى الآية ، فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة ؟ .
وقال
ابن حبيب : أخبرني
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابن الماجشون أنه سمع
مالكا يقول : التثويب ضلال ؟ قال
مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين ، لأن الله تعالى يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ دينا ، لا يكون اليوم دينا .
وإنما التثويب الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق ابن راهويه أنه التثويب المحدث .
قال
الترمذي لما نقل هذا عن سحنون : وهذا الذي قال
إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وإذا
[ ص: 536 ] اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادئ الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة .
وقصة
صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى ، فحكى
ابن وهب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس قال : جعل
صبيغ يطوف بكتاب الله معه ، ويقول : من يتفقه يفقهه الله ، من يتعلم يعلمه الله ، فأخذه
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فضربه بالجريد الرطب ، ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه ، فقال : يا أمير المؤمنين ! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي ، وإلا فقد شفيتني شفاك الله فخلاه
عمر .
قال
ابن وهب : قال
مالك ، وقد ضرب
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ
صبيغا حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اهـ .
وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبني عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحا ، والمرسلات عرفا وأشباه ذلك ، والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه ، إذ لا يستباح دم امرئ مسلم ، ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ، ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبني عليه عمل ، وأن يكون ذلك ذريعة ، لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وفاكهة وأبا قال : هذه الفاكهة ، فما الأب ! ثم قال : ما أمرنا بهذا .
[ ص: 537 ] وفي رواية : نهينا عن التكلف .
وجاء في قصة
صبيغ من رواية
ابن وهب عن
الليث أنه ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له
صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=110أبى موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن لا يجالسه أحد من المسلمين ، فاشتد ذلك على الرجل ، فكتب
أبو موسى إلى
عمر أن قد حسنت سيئته ، فكتب إليه
عمر أن يأذن للناس بمجالسته . والشواهد في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=15وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم .
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط ، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين . فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع ، وأشباه ذلك .
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام . ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وحكى
مالك عمن تقدمه هذا المعنى . فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ، ولا
[ ص: 538 ] أحب هذا ، وهذا مكروه . وما أشبه ذلك ، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط ، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله ، لا لأنه بدعة مكروهة ، على تفصيل يذكر في موضعه .
وأما ثالثا : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة . وبيان ذلك من أوجه :
أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ، ورفع الحرج الثابت في الشريعة ، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب . وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح ، لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه ، فهو يخاف الله ويرجوه ، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان .
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل ، وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه . ويود لو لم يفعل ، وأيضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا .
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال ، فإنه يعد ما دخل فيه حسنا ، بل يراه أولى بما حد له الشارع ، فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلا ، ونحلته أولى بالاتباع .
[ ص: 539 ] هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى . وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله .
وقد مر في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق ، وكذلك مر في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق ما أشير إليه هاهنا ، وبالله التوفيق .
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس .
إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ ، كَمَا أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا وَشَامِلٌ لِأَنْوَاعِهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ .
لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=16أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَقَوْلِهِ
[ ص: 531 ] nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=36وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=37وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ . فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الْهُدَى .
وَنَظِيرِهِ فِي الْمُخَالَفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِبِدَعٍ ، الْمَكْرُوهَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ ، كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَالصَّلَاةِ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005449نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْنَا فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مُخَالِفٌ وَلَا عَاصٍ ، مَعَ أَنَّ الطَّاعَةَ ضِدُّهَا الْمَعْصِيَةُ . وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لِأَنَّهُ فَاعِلُ أَمْرٍ بِهِ . فَإِذَا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا لِأَنَّهُ فَاعِلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَاصٍ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ
nindex.php?page=treesubj&link=20424فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى ، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ ،
[ ص: 532 ] وَإِلَّا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ .
إِلَّا أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ، فَلْيَعُمَّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ ، لَكِنَّ هَذَا بَاطِلٌ ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ . وَالْجَوَابُ : أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ
وَالْجَوَابُ : أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ ـ وَمَا الْتَزَمْتُمْ فِي الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَفْعَالِ أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الضِّدِّيَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ ، وَلِمَا اسْتَقْرَيْنَا مَوَارِدَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَدْنَا لِلطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا أَوْ كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَهِيَ الْمُبَاحُ ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَاعَةٍ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُبَاحٌ .
فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ ضِدَّانِ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ .
وَإِذَا تَأَمَّلْنَا
nindex.php?page=treesubj&link=20424_20575الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الْأُصُولِيُّونَ ـ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ :
طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ النَّهْيِ ، فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ .
غَيْرَ أَنَّهُ يَصُدُّ عَنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ الطَّرَفَ الْآخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمٌّ شَرْعِيٌّ وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ ، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا ذَمَّ عَلَى فَاعِلِهِ وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ ، فَتَحَامَوْا أَنْ يُطْلِقُوا عَلَى مَا هَذَا شَأْنُهُ عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً يَصِحُّ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهَا الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=32فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَلَيْسَ إِلَّا حَقٌّ ، وَهُوَ الْهُدَى ، وَضَلَالٌ وَهُوَ الْبَاطِلُ ، فَالْبِدَعُ
[ ص: 533 ] الْمَكْرُوهَةُ ضَلَالٌ .
وَأَمَّا ثَانِيًا : فَإِنَّ إِثْبَاتَ قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ ، فَلَا يَغْتَرُّ الْمُغْتَرُّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ ، وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ وَأَمَّا تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثْمِ فَاعِلِهَا وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ الْبَتَّةَ ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ .
أَمَّا الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005450أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ اللَّيْلَ وَلَا أَنَامُ ، وَقَالَ الْآخَرُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005451أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْكِحُ النِّسَاءَ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوا ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005189مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي .
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْإِنْكَارِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلَّا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلَى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005452أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ قَالُوا : نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَجْلِسُ وَيَصُومَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مُرْهُ فَلْيَجْلِسْ وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ قَالَ
مَالِكٌ : أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ
مَالِكٌ مَا فِي
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ،
[ ص: 534 ] قَالَ دَخَلَ
أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ
أَحْمُسَ يُقَالُ لَهَا
زَيْنَبُ فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ : مَا لَهَا فَقَالَ حَجَّتْ مُصْمَتَةً قَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَتَكَلَّمَتِ الْحَدِيثَ إِلَخْ .
وَقَالَ
مَالِكٌ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005453مِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ إِنَّ ذَلِكَ أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى
الشَّامِ وَإِلَى
مِصْرَ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ طَاعَةٌ ، أَوْ أَنْ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِنْ هُوَ كَلَّمَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ طَاعَةٌ ، وَإِنَّمَا يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ فِيهِ طَاعَةٌ مِنْ مَشْيٍ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صَلَاةٍ ، فَكُلُّ مَا لِلَّهِ فِيهِ طَاعَةٌ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ .
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ فِي الشَّمْسِ وَتَرَكَ الْكَلَامَ وَنَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى الشَّامِ أَوْ مِصْرَ مَعَاصِيَ ، حَتَّى فَسَّرَ فِيهَا الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ ، مَعَ أَنَّهَا فِي أَنْفُسِهَا أَشْيَاءَ مُبَاحَاتٍ ، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجْرَاهَا مَجْرَى مَا يَتَشَرَّعُ بِهِ وَيُدَانُ لِلَّهِ بِهِ صَارَتْ عِنْدَ
مَالِكٍ مَعَاصِيَ لِلَّهِ ، وَكُلِّيَةُ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005201كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التَّأْثِيمَ وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ الْمُحَرَّمِ .
وَقَدْ مَرَّ مَا
رَوَى nindex.php?page=showalam&ids=14413الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ! مَنْ أَيْنَ أُحْرِمُ ؟ قَالَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ : فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ . قَالَ : غَنِيٌّ أُرِيدَ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ . قَالَ : لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ . قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا ؟ إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا ، قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سُبِقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ [ ص: 535 ] تَعَالَى يَقُولُ : nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=63فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشْرَفَ مِنْهُ ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ ، لَكِنَّهُ أُبْعِدَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْيَسِيرِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ . فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ
مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ، فَأَيْنَ كَرَاهِيَةُ التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يَظْهَرُ بِأَوَّلِ النَّظَرِ أَنَّهَا سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ ؟ .
وَقَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ : أَخْبَرَنِي
nindex.php?page=showalam&ids=12873ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ سَمِعَ
مَالِكًا يَقُولُ : التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ ؟ قَالَ
مَالِكٌ : وَمِنْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الدِّينَ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا ، لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا .
وَإِنَّمَا التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَأَبْطَأَ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ : قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ وَهُوَ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=12418إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ أَنَّهُ التَّثْوِيبُ الْمُحْدَثُ .
قَالَ
التِّرْمِذِيُّ لَمَّا نَقَلَ هَذَا عَنْ سَحْنُونَ : وَهَذَا الَّذِي قَالَ
إِسْحَاقُ هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَالَّذِي أَحْدَثُوهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا
[ ص: 536 ] اعْتُبِرَ هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَسْتَسْهِلُّهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ .
وَقِصَّةُ
صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَحَكَى
ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ قَالَ : جَعَلَ
صَبِيغٌ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَهُ ، وَيَقُولُ : مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفَقِّهْهُ اللَّهُ ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعَلِّمْهُ اللَّهُ ، فَأَخَذَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطِبِ ، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذَا خَفَّ الَّذِي بِهِ أَخْرَجَهُ فَضَرَبَهُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَأَجْهِزْ عَلَيَّ ، وَإِلَّا فَقَدْ شَفَيْتَنِي شَفَاكَ اللَّهُ فَخَلَّاهُ
عُمَرُ .
قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ
مَالِكٌ ، وَقَدْ ضَرَبَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ
صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ اهـ .
وَهَذَا الضَّرْبُ إِنَّمَا كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمُورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ وَرُبَّمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا ، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَالضَّرْبُ إِنَّمَا يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ ، إِذْ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، وَلَا عِرْضُهُ بِمَكْرُوهٍ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ ، ضَرْبُهُ إِيَّاهُ خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ أَنْ يَشْتَغِلَ مِنْهُ بِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً ، لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وَفَاكِهَةً وَأَبًّا قَالَ : هَذِهِ الْفَاكِهَةُ ، فَمَا الْأَبُّ ! ثُمَّ قَالَ : مَا أُمِرْنَا بِهَذَا .
[ ص: 537 ] وَفِي رِوَايَةٍ : نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ .
وَجَاءَ فِي قِصَّةِ
صَبِيغٍ مِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ وَهْبٍ عَنِ
اللَّيْثِ أَنَّهُ ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ لَهُ
صَبِيغٌ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ . فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ ، وَكَتَبَ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبَى مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَنْ لَا يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ ، فَكَتَبَ
أَبُو مُوسَى إِلَى
عُمَرَ أَنْ قَدْ حَسُنَتْ سَيِّئَتُهُ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
عَمَرُ أَنْ يَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ . وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَيِّنَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شَدِيدٌ وَلَيْسَ بِهَيِّنٍ
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=15وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ .
وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقِبْلَتَيْنِ . فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا : هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ . وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=116وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَحَكَى
مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى . فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا : أَكْرَهُ هَذَا ، وَلَا
[ ص: 538 ] أُحِبُّ هَذَا ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ . وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ ، فَإِنَّهُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَيْنَ يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ ؟ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمْرٌ آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لِأَجْلِهِ ، لَا لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا : فَإِنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ ـ وَجَدْنَاهَا مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ . وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنَّمَا قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ مُتَّكِلًا عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ ، فَهُوَ إِلَى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقْرَبُ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ ، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وَإِنِ ارْتَكَبَهُ ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ ، وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ .
فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَنَّ التُّرْكَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْفِعْلِ ، وَأَنَّ نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ زَيَّنَتْ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ . وَيَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ، وَأَيْضًا فَلَا يَزَالُ ـ إِذَا تَذَكَّرَ ـ مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ طَامِعًا فِي الْإِقْلَاعِ سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخَذَ فِي أَسْبَابِ الْإِقْلَاعِ أَمْ لَا .
وَمُرْتَكِبُ أَدْنَى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، فَإِنَّهُ يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حَسَنًا ، بَلْ يَرَاهُ أَوْلَى بِمَا حَدَّ لَهُ الشَّارِعُ ، فَأَيْنَ مَعَ هَذِهِ خَوْفُهُ أَوْ رَجَاؤُهُ ؟ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ طَرِيقَهُ أَهْدَى سَبِيلًا ، وَنِحْلَتَهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ .
[ ص: 539 ] هَذَا وَإِنْ كَانَ زَعْمُهُ شُبْهَةً عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى . وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمْرَ الْبِدَعِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيْضًا أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشِيرَ إِلَيْهِ هَاهُنَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَبَيْنَ أَدْنَى الْبِدَعِ بَعِيدُ الْمُلْتَمَسِ .