وإذا تقرر هذا أربعة أوجه . فالبدعة تنشأ عن
[ ص: 605 ] أحدها : وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع .
والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة ، فيفهمها الجاهل مشروعة .
والثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار ، وهو قادر عليه ، فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة .
والرابع : من باب الذرائع ، وهي أن يكون العمل في أصله معروفا ، إلا أنه يتبدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى .
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ، ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ ، بل هي في القرب والبعد على تفاوت :
- فالأول هو الحقيق باسم البدعة ، فإنها تؤخذ علة بالنص عليها .
- ويليه القسم الثاني ، فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول ، بل قد يكون أبلغ منه في مواضع ـ كما تبين في الأصول ـ غير أنه لا ينزل هاهنا من كل وجه منزلة الدليل ، إذ العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ، ولذلك قالوا : لا تنظر إلى عمل العالم ، ولكن سله يصدقك . وقال أو غيره : الخليل بن أحمد
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
ويليه القسم الثالث : فإن ترك الإنكار ـ مع أن رتبة المنكر رتبة من يعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي أن الفعل غير منكر ، ولكن يتنزل منزلة ما قبله ، لأن الصوارف للقدرة كثيرة ، قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل ، فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة مع علمه بكونه مخالفة .
[ ص: 606 ] ويليه القسم الرابع ، لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض ، فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تعدى رتبة الواقعة أصلا ، فلذلك كانت من باب الذرائع ، فهي إذا لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة ، فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة .
وأما القسم الثاني والثالث ؛ فالمخالفة فيه بالذات ، والبدعة من خارج ، إلا أنها لازمة لزوما عاديا ، ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث ، والله أعلم .