ومن يصدق كاهنا فقد كفر بما أتى به الرسول المعتبر
( ومن يصدق كاهنا ) يعتقد بقلبه صدقه في ما ادعاه من علم المغيبات التي استأثر الله تعالى بعلمها ، ( فقد كفر ) أي بلغ دركة الكفر بتصديقه الكاهن ( بما أتى به الرسول ) محمد صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل من الكتاب والسنة ، وبما أتى به غيره صلى الله عليه وسلم من الرسل عليهم السلام . ولنسق الكلام أولا في تعريف الكاهن من هو ثم في بيان كذبه وكفره ثم في كفر من صدقه بما قال والله المستعان ، فنقول :الكاهن في الأصل هو من يأتيه الرئي من الشياطين المسترقة السمع تتنزل عليهم كما قال الله تعالى : ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ) ( الشعراء : 221 ) وهذه الآيات متعلقة بما قبلها وهي قوله عز وجل لما قال المشركون في رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إنه كاهن ، وقالوا في القرآن كهانة وأنه مما يلقيه الشيطان ، فنفى الله تعالى ذلك وبرأ رسوله وكتابه مما أفكوه وافتروه : ( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) [ ص: 568 ] ( الشعراء : 192 - 195 ) إلى أن قال تعالى : ( وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون ) ( الشعراء : 210 - 212 ) فأثبت تعالى أن القرآن كلامه وتنزيله وأن جبريل عليه السلام رسول منه مبلغ كلامه إلى الرسول البشري محمد صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ له إلى الناس ، ثم نفى ما افتراه المشركون عليه فقال : ( وما تنزلت به الشياطين ) وقرر انتفاء ذلك بثلاثة أمور : الأول : بعد الشياطين وأعمالهم عن القرآن ، وبعده وبعد مقاصده منهم ، فقال تعالى : ( وما ينبغي لهم ) ; لأن الشياطين مقاصدها الفساد والكفر والمعاصي والبغي والعتو والتمرد وغير ذلك من القبائح ، والقرآن آت بصلاح الدنيا والآخرة آمر بأصول الإيمان وشرائعه ، مقرر لها مرغب فيها زاجر عن الكفر والمعاصي ، ذام لها متوعد عليها آمر بالمعروف ناه عن المنكر ، ما من خير آجل ولا عاجل إلا وفيه الدلالة عليه والدعوة إليه والبيان له ، وما من شر عاجل ولا آجل إلا وفيه النهي عنه والتحذير منه ، فأين هذا من مقاصد الشياطين ؟ .
الثاني : عجزهم عنه فقال تعالى : ( وما يستطيعون ) ; أي لو انبغى لهم ما استطاعوه ; لأنه كلام رب العالمين ليس يشبه كلام شيء من المخلوقين ، وليس في وسعهم الإتيان به ولا بسورة من مثله ، ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( الإسراء : 88 ) .
الثالث : عزلهم عن السمع وطردهم عن مقاعده التي كانوا يقعدون من السماء قبل نزول القرآن فقال تعالى : ( إنهم عن السمع لمعزولون ) فبين تعالى - مع كونه لا ينبغي لهم - أنه لو انبغى ما استطاعوا الإتيان به أو بمثله ، لا من عند أنفسهم ولا نقلا عن غيرهم من الملائكة ، نفى عنهم الأول بعدم الاستطاعة ، والثاني بعزلهم عن السمع وطردهم منه ، قال الله عز وجل : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( الحجر : 9 ) إلى قوله : ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ) ( الحجر : 16 - 18 ) وقال تعالى : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) ( الصافات : 6 - 10 ) [ ص: 569 ] وقال تعالى : ( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين ) ( الملك : 5 ) وقال تعالى عن مؤمني الجن رضي الله عنهم : ( وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) ( الجن : 8 - 10 ) .
وعن رضي الله عنهما قال : ابن عباس سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة ، وهو صلى الله عليه وسلم بنخل عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء . فرجعوا إلى قومهم فقالوا : ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ) ( الجن : 1 - 2 ) ، فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) الجن : 1 ) . وهذا الحديث بطوله وطرقه في الصحيحين وغيرهما ، ثم قال تعالى في جواب الكفار مبينا لهم أولياء الشياطين الذين تنزل عليهم ، فقال تعالى : ( انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ) ( الشعراء : 221 ) الآيات .
وفي صحيح قالت البخاري عائشة رضي الله عنها : . وله عن سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : " إنهم ليسوا بشيء " قالوا يا رسول الله : إنهم يحدثون بالشيء يكون حقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تلك الكلمة من الحق [ ص: 570 ] يحفظها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج ، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة " رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ومسترقو السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أوليس قد قال لنا يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " . إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا
ولمسلم عن نحوه ، ابن عباس عن وللبخاري عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة ، فيزيدون معها مائة كذبة " . وقد بقوله : ( بين الله تعالى كذب الكاهن أفاك أثيم ) ( الشعراء : 222 ) فسماه أفاكا ، وذلك مبالغة في وصفه بالكذب . وسماه أثيما ، وذلك مبالغة في وصفه بالفجور . وقوله : ( وأكثرهم كاذبون ) ; أي أكثر ما يقولون الكذب فلا يفهم منه أن فيهم صادقا ، يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : " " فلا يكون صدقا إلا الكلمة التي سمعت من السماء . فيكذب معها مائة كذبة
وأما فمن وجوه : منها كونه وليا للشياطين فلم يوح إليه الشيطان إلا بعد أن تولاه ، قال الله تعالى : ( كفر الكاهن وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ( الأنعام : 121 ) والشيطان لا يتولى إلا الكفار ويتولونه ، قال الله تعالى : [ ص: 571 ] ( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) ( البقرة : 257 ) وهذا وجه ثان . والثالث قوله تعالى : ( يخرجونهم من النور ) ; أي نور الإيمان والهدى ( إلى الظلمات ) ; أي ظلمات الكفر والضلالة . وقال تعالى : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) ( النساء : 119 ) وهذا وجه رابع . والخامس تسميته طاغوتا في قوله عز وجل : ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) ( النساء : 60 ) نزلت في المتحاكمين إلى كاهن جهينة . وقوله : ( وقد أمروا أن يكفروا به ) ; أي بالطاغوت ، وهذا وجه سادس . والسابع أن من هداه الله للإيمان من الكهان كسواد بن قارب رضي الله عنه لم يأته رئيه بعد أن دخل في الإسلام ، فدل أنه لم يتنزل عليه في الجاهلية إلا لكفره وتوليه إياه ، حتى إنه رضي الله عنه كان يغضب إذا سئل عنه حتى قال له عمر رضي الله عنه : ما كنا فيه من عبادة الأوثان أعظم . الثامن وهو أعظمها تشبهه بالله عز وجل في صفاته ومنازعته له تعالى في ربوبيته ، فإن علم الغيب من صفات الربوبية التي استأثر الله تعالى بها دون من سواه ، فلا سمي له مضاهي ولا مشارك : ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون ) ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ) ( أعنده علم الغيب فهو يرى ) ولسان حال الكاهن وقاله يقول نعم . التاسع أن دعواه تلك تتضمن التكذيب بالكتاب وبما أرسل الله به رسله . العاشر النصوص في كفر من سأله عن شيء فصدقه بما يقول ، فكيف به هو نفسه فيما ادعاه ؟ فقد روى الأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن رضي الله عنه : [ ص: 572 ] " أبي هريرة محمد صلى الله عليه وسلم " . من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على
وعن رضي الله عنه : " عمران بن حصين محمد صلى الله عليه وسلم " . ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على ولمسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . فهذا حكم من سأله مطلقا ، والأول حكم من سأله وصدقه بما قال . من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة
ثم اعلم أن الكاهن وإن كان أصله ما ذكرنا فهو عام في كل من ادعى معرفة المغيبات ولو بغيره كالرمال الذي يخط بالأرض أو غيرها ، والمنجم الذي قدمنا ذكره أو الطارق بالحصى وغيرهم ممن يتكلم في معرفة الأمور الغائبة كالدلالة على المسروق ومكان الضالة ونحوها ، أو المستقبلة كمجيء المطر أو رجوع الغائب أو هبوب الرياح ، ونحو ذلك مما استأثر الله عز وجل بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا من طريق الوحي كما قال تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) ( الجن : 26 - 27 ) ملائكة يحفظونه من مسترقي السمع وغيرهم ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ) ( الجن : 28 ) فمن ذا الذي يدعي علم ما استأثر الله بعلمه عن رسله من الملائكة والبشر كما قال تعالى عن نوح عليه السلام : ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) [ ص: 573 ] ( الأنعام : 50 ) الآية . وقال تعالى عن هود عليه السلام : ( قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ) ( الأحقاف : 23 ) وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) ( الأحقاف : 23 ) وقال تعالى : ( قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ( الأعراف : 188 ) وقال تعالى : ( قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) ( الأحقاف : 9 ) الآية .
وقال تعالى عن الملائكة : ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ) ( البقرة : 31 - 32 ) الآيات . ولم يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم مكان راحلته حتى أعلمه الله بذلك ، وقال في سؤال الحبر إياه فأجابه صلى الله عليه وسلم وصدقه الحبر ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " وهي في لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله عز وجل به مسلم . وفيه قول عائشة رضي الله عنها لمسروق رحمه الله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) . ومن زعم أن رسول الله يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم شيئا من الرسالة حتى أتاه الله عز وجل به كما قال تعالى : ( ووجدك ضالا فهدى ) ( الضحى : 6 ) وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) ( الشورى : 52 ) وقال تعالى : [ ص: 574 ] ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ( هود : 49 ) وقال تعالى : ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) ( يونس : 16 ) وقال تعالى : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) ( النساء : 113 ) نسأل الله العظيم من فضله العظيم .