أحدها : أن الأصل الحقيقة ، والمجاز على خلاف الأصل .
الثاني : أن الظاهر خلاف ذلك .
الثالث : أن هذا الاستعمال المجازي لا بد فيه من قرينة تخرجه عن حقيقته ، فأين القرينة في فوقية الرب تعالى ؟
الرابع : أن القائل إذا قال : الذهب فوق الفضة قد أحال المخاطب على ما يفهم من هذا السياق ، والمعتد بأمرين عهد تساويهما في المكان وتفاوتها في المكانة فانصرف الخطاب إلى ما يعرفه السامع ، ولا يلتبس عليه ، فهل لأحد من أهل الإسلام وغيرهم عهد بمثل ذلك في فوقية الرب تعالى حتى ينصرف فهم السامع إليها .
الخامس : أن العهد والفطر والعقول والشرائع وجميع كتب الله المنزلة على خلاف ذلك وأنه سبحانه فوق العالم بذاته ، فالخطاب بفوقيته ينصرف إلى ما استقر في الفطر والعقول والكتب السماوية .
[ ص: 432 ] السادس : أن هذا المجاز لو صرح به في حق الله كان قبيحا ، فإن ذلك إنما يقال في المتقاربين في المنزلة وأحدهما أفضل من الآخر ، وأما إذا لم يتقاربا بوجه فإنه لا يصح فيهما ذلك ، وإذا كان يقبح كل القبح أن تقول : الجوهر فوق قشر البصل وإذا قلت ذلك ضحكت منك العقلاء للتفاوت العظيم الذي بينهما ، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم وفي مثل هذا قيل شعرا :
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
السابع : أن الرب سبحانه لم يمتدح في كتابه ولا على لسان رسوله بأنه أفضل من العرش ، وأن رتبته فوق رتبة العرش ، وأنه خير من السماوات والعرش والكرسي ، وحيث ورد ذلك في الكتاب فإنما هو في سياق الرد على من عبد معه غيره وأشرك في إلهيته ، فبين سبحانه أنه خير من تلك الآلهة كقوله : ( آلله خير أم ما يشركون ) وقوله : ( أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ) وقول السحرة : ( وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى ) ولكن أين في القرآن مدحه نفسه وثناؤه على نفسه بأنه أفضل من السماوات والعرش والكرسي ابتداء ، ولا يصح إلحاق هذا بذلك ، إذ يحسن في الاحتجاج على المنكر وإلزامه من الخطاب الداحض لحجته ما لا يحسن في سياق غيره ، ولا ينكر هذا إلا غبي .الثامن : أن هذا المجاز وإن احتمل في قوله : ( وإنا فوقهم قاهرون ) فذلك لأنه قد علم أنهم جميعا مستقرون على الأرض ، فهي فوقية قهر وغلبة ، لم يلزم مثله في قوله : ( وهو القاهر فوق عباده ) إذ قد علم بالضرورة أنه وعباده ليسوا مستوين في مكان واحد حتى تكون فوقية قهر وغلبة .
التاسع : هب أن هذا يحتمل في مثل قوله : ( وفوق كل ذي علم عليم ) لدلالة السياق والقرائن المقترنة باللفظ على فوقية الرتبة ، ولكن هذا إنما يأتي مجردا عن ( من ) ولا يستعمل مقرونا بمن فلا يعرف في اللغة البتة أن يقال : الذهب من فوق الفضة ولا العالم من فوق الجاهل ، وقد جاءت فوقية الرب مقرونة بمن كقوله تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ) فهذا صريح في فوقية الذات ، ولا يصح حمله على فوقية الرتبة لعدم استعمال أهل اللغة له .
[ ص: 433 ] العاشر : أن لفظ الحديث صريح في فوقية الذات ، وهذا لفظه .
قال العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالبطحاء فمرت سحابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا ، قال : إما واحد وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ، ثم عد سبع سماوات ثم قال : وبين السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أظلافهم وركبهم كما بين سماء إلى سماء ، على ظهورهم العرش ، ثم الله فوق ذلك ، وهو يعلم ما أنتم عليه " رواه كنا أبو داود بإسناد جيد .
فتأمل الفوقية في ألفاظ هذا الحديث هل أريد بها فوقية الرتبة في لفظ واحد من ألفاظها ؟
الحادي عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشده قوله : عبد الله بن رواحة
شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام ملائكة الإله مسومينا
الثاني عشر : ما رويناه بالإسناد الصحيح عن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت أن أنشد النبي صلى الله عليه وسلم : حسان بن ثابت
شهدت بإذن الله أن محمدا رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل
وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم يقوم بذات الله فيهم ويعدل