وأما مسألة  تكلم العباد بالقرآن   فقد اشتبهت على كثير من الناس ، فقالت طائفة : إن الله يخلق كلامه عند تلاوة كل تال ، فيجري كلامه المخلوق على لسان التالي ، وفعل التالي هو حركة اللسان فقط وهي القراءة : فالقراءة صنع العبد عندهم ، والمقروء صنع الله وخلقه ، فالمسموع عندهم مخلوق بين صنعين : صنع الرب وصنع العبد ، وهذا قول  أبي هذيل  والإسكافي  وأصحابه .  
وقالت فرقة أخرى : إن العبد هو المحدث لأفعاله وتلاوته ، والله تعالى خلقه في مكان واحد لا ينتقل عنه ولا يفارقه إلى غيره ، فهذا المسموع هو صنع التالي ألفاظه وتلاوته ، وهذا قول أكثر البغداديين من  المعتزلة   ، وقول  جعفر بن حرب     .  
وقالت فرقة : إن القرآن لم يخلقه الله تعالى في الحقيقة ولا هو فعله ، فإنه عرض وهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله ، قالوا فهو فعل المحل الذي قام به ، وهذا قول  معمر  وأصحابه من  المعتزلة      .  
وقالت فرقة : إن الله سبحانه خلق كلامه في اللوح المحفوظ ثم مكن  جبرائيل   أن يأخذه منه نقلا ويعلمه رسوله صلى الله عليه وسلم ،  فجبرائيل   إذا نطق به كان نطقه بمنزلة من يقرأ كتاب غيره ، لكن الحروف والأصوات في الحقيقة  لجبرائيل   لم تقم بذات الرب حروف      [ ص: 504 ] القرآن ولا ألفاظه ، ولا سمعه  جبرائيل   من الله تعالى ، وإنما نزل به من المحل الذي خلق فيه ، وهذا قول كثير من  الكلابية   ، فعندهم أن المسموع قول الرسول الملكي حقيقة سمعه منه الرسول البشري فأداه كما سمعه ، فالرسول الملكي ناقل لما في اللوح المحفوظ غير سامع له من الله ، والرسول البشري ناقل له عن  جبرائيل   قوله وألفاظه .  
ومن هؤلاء من يقول : بل الله تعالى ألهم  جبرائيل   معانيه ، فعبر عنها  جبرائيل   بعبارته ، فهذه الألفاظ كلام  جبرائيل   في الحقيقة لا كلام الله .  
ومنهم من يقول :  جبرائيل   علم رسول الله نص معانيه وألقاها في روعه ،  ومحمد   رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشأ ألفاظها وعبر بها من عنده دلالة على ذلك المعنى الذي ألقاه إليه الملك ، فالقرآن العربي على قولهم قول  محمد   صلى الله عليه وسلم أو قول  جبرائيل   عليه السلام ، وهذا قول من لا نسميهم لشهرتهم ، وإن حرفوا العبارة وزينوا له الألفاظ ، فهو قولهم الذي يناظرون عليه ويكفرون من خالفهم فيه يقولون فيه : قال أهل الحق كذا ، وقالت سائر فرق أهل الزيغ بخلافه .  
وقالت فرقة أخرى : بل لسان التالي مظهر للكلام القديم ، فيسمع منه عند التلاوة كما سمع  موسى   كلام الله من الشجرة ، فلسان التالي كالشجرة محل ومظهر للكلام ، فإذا قال التالي (  الحمد لله رب العالمين      ) كان المسموع كله حروفه وأصواته غير كلام الله القائم به من غير حلول في القارئ ولا اتحاد به ، كما أن الله سبحانه لم يحل في الشجرة ولا اتحد بها ، وسمع  موسى   كلامه منها .  
واختلفت هذه الفرقة في  الصوت الذي يسمع من القارئ   على قولين أحدهما : إنه عين صوت الله بالقرآن ظهر عند تلاوة التالي ، فكانت التلاوة مظهرة له ، وقالت فرقة أخرى منهم ، ما لا بد منه من الصوت في الأداء ولا يتأدى الكلام بدونه ، فهو الصوت القديم ، وما زاد عليه من قوة الاعتماد والرفع فمحدث .  
قالوا : وقد اقترن القديم بالمحدث على وجه معسر التمييز بينهما جدا ، فلما ورد عليهم أن الحس شاهد بأن هذا الصوت موجود بعد أن كان معدوما ومعدوما بعد وجوده وهذا مستحيل على القديم ، أجابوا بأن الذي وجد بعد عدمه ثم عدم بعد وجوده هو ظهور الصوت القديم لا نفسه ، فالمحدث وقع على الإدراك لا على المدرك ، كما إذا سمع كلامه سبحانه منه بعد أن لم يسمع ، ثم عدم السمع فالحدوث واقع على السمع لا على المسموع ، وهذا قول جماعة ممن ينسب إلى   الإمام أحمد     .  
 [ ص: 505 ] وأصحابه المتقدمون بريئون من هذا المذهب المخالف للحس والعقل والفطرة ، ونصوص  أحمد  إنما تدل على خلافه ، فقد نص في رواية جماعة من أصحابه على أن الصوت صوت العبد ، فقال في قول النبي صلى الله عليه وسلم "  ليس منا من لم يتغن بالقرآن     " ، قال يجهر به ويحسنه بصوته ما استطاع ، وقد نص على ذلك الأئمة   كالبخاري  وغيره .  
قال   البخاري  في صحيحه : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "  الماهر بالقرآن مع الكرام البررة  ،  وزينوا القرآن بأصواتكم  ثم احتج بحديث   أبي هريرة  عن النبي صلى الله عليه وسلم "  ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به     " فأضاف الصوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساق حديث  البراء  أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون ، ما سمعت صوتا أحسن منه  ، فأضاف الصوت إليه ثم ذكر حديث   ابن عباس  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متواريا  بمكة   وكان يرفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن جاء به ، فأنزل الله تعالى : (  ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها      )  ثم قال :  
باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم ، وذكر في الباب حديث   أبي سعيد الخدري     "  يخرج أناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم     " ، ومعلوم أن المراد التلاوة والأداء وما قام بهم من الأصوات ، وأنها لم تجاوز حناجرهم ، وكان   البخاري  قد امتحن بهذه الفرقة ، فتجرد للرد عليهم وبالغ في      [ ص: 506 ] ذلك في كتاب ( خلق أفعال العباد ) فإنه بناه على ذلك وأن أصوات العباد من أفعالهم أو متولدة عن أفعالهم فهي من أفعالهم ، فالصوت صوت العبد حقيقة ، والكلام كلام الله حقيقة ، أداه العبد بصوته كما يؤدي كلام الرسول وغيره بصوته ، فالعبد مخلوق وصفاته مخلوقة وأفعاله مخلوقة وصوته وتلاوته مخلوقة ، والمتلو المؤدى بالصوت غير مخلوق .  
واحتج   البخاري  في الصحيح في ( خلق أفعال العباد ) على ذلك بنصوص التبليغ ، كقوله تعالى : (  ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك      ) وقوله : (  إن عليك إلا البلاغ      ) وقوله : (  لقد أبلغتكم رسالة ربي      ) وهذا من رسوخه في العلم ، فإن ذلك يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ :  
أحدهما : أن الرسول ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه ، فلو كان هو قد أنشأ ألفاظه لم يكن مبلغا بل منشئا مبتدئا ، ولا تعقل الأمم كلها من التبليغ سوى تأدية كلام الغير بألفاظه ومعانيه ولهذا يضاف الكلام إلى المبلغ عنه لا إلى المبلغ .  
وأيضا فالتبليغ والبلاغ هو الإيصال ، وهو معدى من بلغ إذا وصل ، والإيصال حقيقة أن يورد إلى الموصل إليه ما حمله إياه غيره ، فله مجرد إيصاله .  
الأصل الثاني : أن التبليغ فعل المبلغ وهو مأمور به مقدور له ، وتبليغه هو تلاوته بصوت نفسه ، فلو كان الصوت والتلاوة وصوت المتكلم به أزليا وتلاوته لم يكن فعلا مأمورا به مضافا إلى المأمور ، وبالجملة فالتبليغ هو صوت المبلغ القائم به .  
قال   البخاري     : باب ما جاء في قوله تعالى : (  بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته      ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "  بلغوا عني ولو آية وليبلغ الشاهد الغائب وأن الوحي قد انقطع     " ، فتأمل مقصوده بقوله : وإن الوحي قد انقطع فلو كانت أصواتنا بالقرآن هي نفس الصوت القديم الذي تكلم الله تعالى به لم يكن الوحي قد انقطع ، بل هو متصل ما دامت أصوات العباد مسموعة بالتلاوة ، فالقائلون إن هذا الصوت القديم ظهر عند تلاوة التالي ، وهو الصوت الذي أوحى الله به الوحي إلى رسوله ، وهو غير منقطع لزمه لزوما بينا أن الوحي متصل غير منقطع .  
 [ ص: 507 ] قال   البخاري     : في كتاب ( خلق أفعال العباد ) ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفت الصوت ، ويكره أن يكون رفيع الصوت ، وأن الله سبحانه ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فليس هذا لغير الله تعالى .  
قال  أبو عبد الله     : وفي الدليل أن  صوت الله لا يشبه أصوات الخلق      ; لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، فإذا نادى  جبرائيل   الملائكة لم يصعقوا ، ثم ساق في الباب أحاديث تكلم الله بالصوت محتجا بها .  
قال   البخاري     : وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقرأه ترجمان  قيصر  على  قيصر  وأصحابه ، ولا يشك في قراءة الكفار أهل الكتاب أنها أعمالهم ، وأما المقروء فهو كلام العليم المنان ليس بخلق ، فمن حلف بأصوات  قيصر  أو بنداء المشركين الذين يقرون بالله لم تكن عليه يمين دون الحلف بالله لقول النبي صلى الله عليه وسلم "  لا تحلفوا بغير الله     " وليس للعبد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح الصبيان التي يكتبونها ثم يمحونها المرة بعد المرة ، وإن حلف فلا يمين عليه لقوله تعالى : (  فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون      ) .  
قال   البخاري     : وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "  بينا أنا في الجنة سمعت صوت رجل بالقرآن     " فبين أن الصوت غير القرآن .  
قلت : ونظيره إني لأعرف أصوات رفقة  الأشعريين   بالقرآن .  
قال  أبو عبد الله     : ويقال له صفة الله وكلامه ، وعلمه وأسمائه وعزه وقدرته بائنة من الله أم لا ، وقولك وكلامك بائن من الله أم لا .  
قال  أبو عبد الله     : قال الله تعالى : (  وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى      ) ، وقال تعالى : (  إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك      ) والإنذار من  نوح   وهو نذير مبين يأمرهم بطاعة الله ، وأما الغفران فإنه من الله يقول      [ ص: 508 ]    (  يغفر لكم من ذنوبكم      ) ، ثم قال : (  رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا      ) فذكر الدعاء سرا وعلانية من  نوح   ، وقال   ابن مسعود  قال النبي صلى الله عليه وسلم لقوم كانوا يقرءون القرآن فيجهرون به خلطتم علي القرآن يقول علت أصواتكم صوتي  ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع بعضهم على بعض صوته ، ولم ينه عن القرآن ولا عن كلام الله .  
قال   البخاري     : واعتل بعضهم فقال حتى يسمع كلام الله ، قيل له إنما قال حتى يسمع كلام الله لا كلامك ونغمتك وصوتك ، إن الله فضل  موسى   بكلامه ، ولو كان يسمع الخلق كلهم كلام الله كما سمع  موسى   لم يكن  لموسى   عليك فضل ، ومعنى هذا أن هذا الصوت المسموع من القارئ لو كان هو الصوت الذي سمعه  موسى   لكان كل من سمع القرآن بمنزلة  موسى   في ذلك .  
				
						
						
