فصـل : في أنه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لبطلت نبوة سائر الأنبياء ، فظهور نبوته تصديق لشهادتهم وشهادة لهم بالصدق ، فإرساله من آيات الأنبياء قبله ، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه في قوله : لو لم يظهر بل جاء بالحق وصدق المرسلين .
فإن المرسلين بشروا به وأخبروا بمجيئه ، فمجيئه هو نفس صدق خبره ، فكأن مجيئه تصديق لهم إذ هو تأويل ما أخبروا به ، ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر : إن تصديقه المرسلين بشهادته بصدقهم وإيمانه بهم ، فإنه صدقهم بقوله ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه ، وشهد بصدقهم بقوله . ومثل هذا قول المسيح : مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
[ ص: 526 ] فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها ، ثم بشر برسول يأتي من بعده ، فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له ، كما كان ظهوره تصديقا للتوراة ، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق ، واللاحق يصدق السابق ، فلو لم يظهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله .
والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده ولا يكذب خبره وقد كان بشر إبراهيم وهاجر ببشارات بينات ولم نرها تمت ولا ظهرت إلا بظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير بشرت مريم ابنة عمران بالمسيح ، على أن مريم بشرت به مرة واحدة ، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين ، وبشر به إبراهيم مرارا .
ثم ذكر الله سبحانه هاجر وبعد وفاتها كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لإبراهيم : قد أجبت دعاك في إسماعيل ، وباركت عليه ، وكثرته ، وعظمته جدا جدا . وسيلد اثني عشر عظيما ، هكذا ترجمة بعض المترجمين . ففي التوراة أن الله قال
وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول : وسيلد اثني عشر أمة من الأمم وفيها : لما هربت هاجر من سارة تزايا لها ملك الله ، وقال : يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت ؟ وإلى أين تذهبين ؟ قالت : هربت من سيدتي ، فقال لها الملك : [ ص: 527 ] ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها ، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة ، ها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل ، لأن الله قد سمع تذللك وخضوعك وخشوعك ، وهو يكون عين الناس ، وتكون يده فوق الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته .
وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران ، وفيها : فقال الملك : يا هاجر ليفرح روعك . فقد سمع الله تعالى صوت الصبي ، قومي فاحمليه وتمسكي به ، فإن الله تعالى جاعله لأمة عظيمة ، وأن الله تعالى فتح عليها فإذا بئر ماء فذهبت وملأت المزادة منه ، وسقت الصبي منه ، وكان الله معها ومع الصبي حتى تربى ، وكان مسكنه في برية فاران .
فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل ، نزلت اثنتان منها على إبراهيم واثنتان على هاجر . بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدا ، وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون ، وهذه البشارة إنما تمت بظهور وفي التوراة بشارات أخرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأمته . وإن بني إسحاق كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين خولا للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران ، وأورثهم أرض الشام ، فكانت كرسي مملكتهم ، ثم سلبهم ذلك وقطعهم في الأرض أمما مسلوبا عزهم وملكهم ، قد أخذتهم سيوف السودان ، وعلتهم أعلاج الحمران حتى ظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل وعلت وانتشرت في آفاق الدنيا ، ومدت وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما ، وطحنوهم طحنا ، وانتشروا في آفاق الدنيا ، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع ، وعلوهم [ ص: 528 ] علو الثريا فيما بين الهند والحبشة والسوس الأقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر ، وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين . وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم ، إبراهيم والد إسماعيل . فليس صبي من بعد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف
وأما النصرانية وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة ، فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر ألبتة ، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ، ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع ، وكذلك سائر ما تقدم من البشارات ، ويفيد مجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته . فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره صلى الله عليه وسلم لبطلت النبوات .
ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه الذي بشروا به ، قالوا : نحن في انتظاره ولم يجئ بعد . لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم
ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ابن اسمه إسماعيل ، وأن هذا لم يخلقه الله تعالى .
ولا يكثر على أمة البهت وإخوان القرود وقتلة الأنبياء مثل ذلك ، كما لم يكثر على المثلثة وعباد الصليب الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا ، وينتقصوا نبينا صلى الله عليه وسلم .