[ ص: 462 ]       ( فصل ) : قال السائل :  
نرى في دينكم أكثر الفواحش فيمن هو أعلم وأفقه في دينكم كالزنى واللواط والخيانة ، والحسد والبخل ، والغدر والجبن ، والكبر والخيلاء ، وقلة الورع واليقين ، وقلة الرحمة والمروءة والحمية ، وكثرة الهلع ، والتكالب على الدنيا والكسل في الخيرات ، وهذا الحال يكذب لسان المقال .  
والجواب من وجوه :  
أحدها : أن يقال :  ماذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم   ؟ وهل يقدح ذلك شيئا في نبوتهم ، أو يوجب تغيرا في وجه رسالتهم ؟ ! وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها وأجناسها إلا الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟  وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم   ؟ وهل هذا إلا من أقبح التعنت ؟ وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غاية عافيته ، فقال : لو كنت طبيبا لم يكن فلان وفلان مرضى . وهل يلزم الرسل أن يشفوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض ؟ وهل تعنت أحد على الرسل بمثل هذا التعنت ؟  
الوجه الثاني : أن  الذنوب أو المعاصي أمر مشترك بين الأمم   ، لم يزل في   [ ص: 463 ] العالم من طبقات بني آدم عالمهم وجاهلهم ، وزاهدهم في الدنيا وراغبهم ، وأميرهم ومأمورهم ، وليس ذلك أمرا اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها .  
الوجه الثالث : أن  الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل   ، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان ، والذنوب والمعاصي ، فيكون فيه هذا وهذا . فالمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كماله وتمامه .  
الوجه الرابع : أن  الذنوب تغفر بالتوبة النصوح   ، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء ، وعدد الرمل والحصى ، ثم تاب منها تاب الله عليه ، قال تعالى :  قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا      .  
فهذا في حق التائب ، وأن التوبة تجب ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، والتوحيد يكفر الذنوب ، كما في الحديث الصحيح :  ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا ، لقيتك بقرابها مغفرة  فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد ، إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم .  
وأما  المشركون والكفار فإن شركهم وكفرهم محبط حسناتهم   ، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة ، ولا يعقب لهم شيء من مغفرة ذنوبهم ، قال تبارك   [ ص: 464 ] وتعالى :  إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء   وقال تعالى في حق الكفار والمشركين :  وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا   ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  أبى الله أن يقبل من مشرك عملا     .  
فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح ، والتوحيد الخالص ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة لها ، وشفاعة الشافعين في الموحدين ، وآخر ذلك إذا عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار ، وأما الشرك بالله والكفر بالرسول ، فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا يبقى معه حسنة .  
الوجه الخامس : أن يقال لمورد هذا السؤال - إن كان من الأمة الغضبية إخوان القردة - ألا يستحي من إيراد هذا السؤال ، من آباؤه وأسلافه كانوا يشهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم ؟ وفلق الله لهم البحر فأنجاهم من عدوهم ، وما جفت أقدامهم من ماء البحر حتى قالوا لموسى :  اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون      .  
ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ   ، وغلب أخوه  هارون   معهم ، ولم يقدر على الإنكار عليهم ، وكانوا مع مشاهدتهم العجائب يهمون برجم  موسى   وأخيه  هارون   في كثير من الأوقات ، والوحي بين أظهرهم ، ولما ندبهم إلى الجهاد ، قالوا :  فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون   وآذوا  موسى   أنواع الأذى ، حتى قالوا : إنه آدر وهذا لكونه كان يغتسل وحده ، فاغتسل يوما ووضع ثوبه على   [ ص: 465 ] حجر ففر الحجر بثوبه وعدا خلفه عريانا حتى نظر  بنو إسرائيل   إلى عورته ، فرأوه أحسن خلق الله متجردا .  
ولما مات أخوه  هارون   قالوا :  موسى   قتله وغيبه   ، فرفعت الملائكة لهم تابوته بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا ، وآثروا العود إلى  مصر   وإلى العبودية ، ليشبعوا من أكل اللحم والبصل والقثاء والعدس ، هكذا عندهم .  
والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى ، وانهماكهم على الزنى ،  وموسى   بين أظهرهم ، وعدوهم بإزائهم ، حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم معروف عندهم ، وعبادتهم الأصنام بعد عصر  يوشع بن نون   ، وتحيلهم على صيد   [ ص: 466 ] الحيتان في يوم السبت لا تنسه ، حتى مسخوا قردة خاسئين ، وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا في أول النهار ، وأقاموا السوق آخره كأنهم جزروا غنما ، أمر معروف .  
وقتلهم  يحيى بن زكريا   ، ونشرهم إياه في المنشار      .  
وإصرارهم على العظائم ، واتفاقهم على تغيير كثير من أحكام التوراة ، ورميهم  لوطا   بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما .  
ورميهم  يوسف   بأنه حل سراويله وجلس من امرأة العزيز مجلس المرأة من القابلة   حتى انشق الحائط ، وخرجت له كف  يعقوب   وهو عاض على أنامله ، فقام وهرب ، وهذا لو رآه أفسق الناس وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه .  
وطاعتهم للخارج على ولد  سليمان بن داود   لما وضع لهم كبشين من ذهب ،   [ ص: 467 ] فعكفت جملتهم على عبادتها ، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد  سليمان   ، وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة .  
أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تعيير الموحدين بذنوبهم ؟ أولا يستحي ذرية  قتلة الأنبياء   من تعيير المجاهدين لأعداء الله ؟ فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار المشركين ؟ أولا يستحي من يقول في صلاته لربه : انتبه كم تنام ، استيقظ من رقدتك ، ينخيه بذلك ويحميه ، من تعيير من يقول في صلاته :  الحمد لله رب العالمين   الرحمن الرحيم   مالك يوم الدين   إياك نعبد وإياك نستعين      .  
فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصى والرمل ، والتراب والأنفاس ، ما بلغت مبلغ قتل نبي واحد   ، ولا وصلت إلى قول إخوان القردة  إن الله فقير ونحن أغنياء   ، وقولهم  عزير ابن الله   ، وقولهم  نحن أبناء الله وأحباؤه   وقولهم : إن الله بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه من البكاء وجعلت الملائكة تعوده ، وقولهم : إنه عض أنامله على ذلك ، وقولهم : إنه ندم على خلق البشر وشق عليه لما رأى   [ ص: 468 ] من معاصيهم وظلمهم .  
وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوراة التي أنزلها على كليمه ، فلو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر ، ولا تنس قصة أسلافهم مع شاءول الخارج على  داود   ، فإن سوادهم الأعظم انضم إليه ، وشهدوا معه على حرب  داود   ، ثم لما عادوا إلى طاعة  داود   ، وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين بحيث اختصموا في السبق إليه ، فتتبع منهم شخص ونادى بأعلى صوته : لا نصيب لنا في  داود   ولا حظ في شاءول ، ليمض كل منكم إلى خبائه يا  إسرائيليين   فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر  بني إسرائيل   إلى أخبيتهم بسبب كلمته ، ولما قتل هذا الصائح ، عادت العساكر جميعها إلى خدمة  داود   ، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع يجمعهم طبل ويفرقهم عصا .  
				
						
						
