( حدثنا   قتيبة بن سعيد  حدثنا  جرير  عن   عطاء بن السائب  عن أبيه عن   عبد الله بن عمرو ) أي : ابن العاص     ( قال : انكسفت الشمس ) أي : ذهب نور كلها أو بعضها ، يقال كسفت بفتح الكاف وانكسفت      [ ص: 147 ] بمعنى وأنكر  الفراء  انكسف ، وكذا  الجوهري  حيث نسبه إلى العامة ، والحديث يرد عليهما ، وحكى كسفت بضم الكاف ، وهو نادر ، وقال  الكرماني     : يقال كسفت الشمس والقمر بفتح الكاف وضمها ، وانكسفا وخسفا بفتح الخاء وضمها وانخسفا ، والكل بمعنى واحد ، وقيل كسفت الشمس بالكاف ، وخسف القمر بالخاء ثم الجمهور على أنهما يكونان لذهاب ضوئهما بالكلية ، ولذهاب بعضه أيضا ، وقال بعضهم : الخسوف في الجمع ، والكسوف في البعض وقيل الخسوف ذهاب اللون ، والكسوف التغير ، وقال  العسقلاني     : المشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر ، وذكر  الجوهري  أنه أفصح ، وقيل يتعين ذلك ، وحكى  عياض  عن بعضهم عكسه ، وغلط لثبوته بالخاء للقمر في القرآن ، وقيل يقال في كل منهما ، وبه جاءت الأحاديث ، وقيل بالكاف في الابتداء ، وبالخاء في الانتهاء ( يوما على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وهو يوم ماتإبراهيم  ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في   البخاري  بلفظ  كسفت الشمس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات  إبراهيم  ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس : كسفت الشمس لموت  إبراهيم     ( فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي  حتى لم يكد ) أي : لم يقرب ( يركع ) بلا لفظة ( أن ) وهو كناية عن طول القيام والقراءة ; فإنه صح عنه عليه السلام أنه قرأ قدر البقرة في الركعة الأولى (  ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه     ) كذلك بدون أن بخلاف الباقي مما سيأتي من قوله (  ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجد ثم سجد     ) ،  ولمسلم  من حديث  جابر  ثم رفع فأطال ثم سجد (  فلم يكد أن يرفع رأسه ثم رفع رأسه فلم يكد أن يسجد     ) وكذا رواه   النسائي   وابن خزيمة  من طريق   الثوري  عن   عطاء بن السائب  ،   والثوري  سمع منه قبل الاختلاط ، فالحديث صحيح ، ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين في صلاة الكسوف إلا في هذا ، وقد نقل   الغزالي  الاتفاق على ترك إطالته ، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام ، وإلا فهو محجوج بهذه الرواية ذكره  العسقلاني     ( ثم سجد فلم يكد أن يرفع رأسه فجعل ينفخ ) أي : من غير أن يظهر من فمه حرفان ( ويبكي ) قال  ميرك     : ووقع في رواية  أحمد بن خزيمة   وابن حبان   والطبراني  بلفظ :  وجعل ينفخ في الأرض ويبكي وهو ساجد وذلك      [ ص: 148 ] في الركعة الثانية ( ويقول رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم     ) أي : بقولك  وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم   الآية (  رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون     ) أي : بقولك  وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون      ( ونحن نستغفرك ) فيه إيماء إلى تحقيق الموعودين مع زيادة وهي استغفاره - صلى الله عليه وسلم - معهم وذكر ذلك ; لأن الكسوف ربما دل على وقوع عذاب فخشي - صلى الله عليه وسلم - من وقوعه وعمومه ، ومن ثمة روى   البخاري  فقام فزعا يخشى أن تقوم الساعة .  
وفيه تعليم الأمة من ذكر وعد الله للمؤمنين في مقام طلب دفع البلاء ، وكأن فائدة الدعاء بعدم تعذيبهم مع الوعد به الذي لا يخلف تجويز أن ذلك الوعد منوط بشرط أو قيد اختل (  فلما صلى ركعتين انجلت الشمس     ) أي : انكشفت وروى   النسائي  فصلى بهم ركعتين كما يصلون وروى المص كما ترى أنه ركع في كل ركعة ركوعا .  
وروى   ابن حبان  أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم     .  
وبهذا أخذ  أبو حنيفة  وأصحابه وغيرهم من العلماء ، وأما ما قال جمع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في كسوف القمر فيرده عليهم ما رواه   ابن حبان  في صحيحه ، وتأويل صلى بأمر باطل إذ لا دليل عليه ، وأما قول  ابن القيم  من أنه لم ينقل عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه جماعة فيرده قول   ابن حبان  في سيرته أنه خسف في السنة الخامسة فصلى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه  صلاة الكسوف   فكانت أول صلاة كسوف في الإسلام ، وجزم به  مغلطاي     :  والزين العراقي  لكن قد يقال إن مراد  ابن القيم  أنه لم ينقل نقلا صحيحا مع أنه ليس في حديث   ابن حبان  في سيرته تصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه جماعة والله أعلم .  
ثم اعلم أنه ورد في بعض الروايات أنه ركع في كل ركعة ركوعين ، وفي بعضها ثلاثا ، وفي بعضها أربعا ، وفي بعضها ستا فحمل بعض الشافعية الروايات المتعارضة على تعدد الواقعة ، وأن كلا من هذه الأوجه جائز ، وقواه  النووي  في شرح  مسلم  ، وفيه أن صحة تعدد الكسوف يحتاج إلى نقل ثابت لا بمجرد جمع الروايات يقال بالتعدد خصوصا أنه نقل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها  بالمدينة   إلا مرة واحدة ، وقد نقل  ابن القيم  عن   الشافعي  ،  وأحمد   والبخاري  أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين غلطا من بعض الرواة ، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض ، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات  إبراهيم  ، وإذا اتحدت القضية بطلت دعوى تعدد الواقعة مع أن كلا من رواية الثلاث وما فوقها لا تخلو عن علة . 
وأما تعين الأخذ بالراجح ، وهو ركوعان على ما ذكره بعض الشافعية فمحل بحث ; فإنه عند اختلاف الروايتين بين الركوع والركوعين ينبغي الحمل على ما هو المعهود من صلاته - صلى الله عليه وسلم - وأن الزيادة ساقطة لاعتبارها محمولة على وهم بعض الرواة ، ولذا قال  الإمام محمد  من أئمتنا : إن تأويل ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أطال الركوع رفع بعض الصفوف رءوسهم ظنا منهم أنه عليه السلام رفع رأسه من الركوع فرفع من خلفهم ، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راكعا ركعوا فركع من خلفهم فمن كان خلف خلفهم ظن أنه صلى الله عليه      [ ص: 149 ] وسلم صلى بأكثر من ركوع فروى على حسب ما عنده من الاشتباه ويدل على هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها  بالمدينة   إلا مرة واحدة باتفاق المحدثين ، وأرباب السير على خلاف في تعيين سنة موت  إبراهيم  ، فجمهور أهل السيرة على أنه مات في السنة العاشرة فقيل في ربيع الأول ، وقيل في رمضان ، وقيل في ذي الحجة ، ولم يصح الأخير ; لأنه كان  بمكة   في حجة الوداع ، وقد شهد وفاته  بالمدينة   ، وكانت وفاته  بالمدينة   اتفاقا ، وقيل مات سنة تسع ، وجزم  النووي  بأنها كانت سنة  الحديبية      .  
( فقام ) أي : في محله أو على المنبر ( فحمد الله ) قال  ابن حجر     : فيه دليل لمذهبنا من تعيين لفظ ح م د في الخطبة انتهى وفي استدلاله نظر ظاهر ( وأثنى عليه ) تفسير لما قبله أو المعنى شكره على إنعاماته ، وأثنى على ذاته وصفاته وزاد عليه   النسائي  من حديث  سمرة  ، وشهد أنه عبد الله ورسوله ( ثم قال :  إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله     ) أي : الدالان على وحدانيته ، وكمال قدرته كما قال تعالى  وجعلنا الليل والنهار آيتين   الآية أي : علامتين تدلان على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره أو على تخويف العباد من بأسه ، وسطوته ويؤيده قوله تعالى  وما نرسل بالآيات إلا تخويفا   وزاد في الصحيحين :  لا يخسفان لموت أحد ، ولا لحياته  ، قال  ميرك     : وقع في الروايات الأخر المخرجة في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة زيادة بعد قوله من آيات الله وهي (  لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته     ) وورد في رواية أخرى صحيحة أيضا بيان سبب هذا القول ولفظها ، وذلك أن ابنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له  إبراهيم  مات فقيل إنما كسفت لموت  إبراهيم  أخرجه   ابن حبان     .  
وفي رواية أخرى صحيحة أيضا من حديث   النعمان بن بشير  قال  انكسفت الشمس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج فزعا يجر رداءه حتى أتى المسجد فصلى حتى انجلت فلما انجلت قال : إن الناس يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء ، وليس كذلك  إلى آخره أخرجه  أحمد   والنسائي   وابن ماجه  وصححه   ابن خزيمة  والحاكم     .  
( فإن انكسفا ) فيه تغليب القمر في التذكير ، وتغليب الشمس في الفعل على الشهير ، وفي نسخة فإذا انكسفا ( فافزعوا ) بفتح الزاي أي : خافوا وتضرعوا ، والتجئوا وبادروا ، وتوجهوا ( إلى ذكر الله تعالى ) والأمر للاستحباب ، وفي رواية   البخاري  ، فإذا رأيتموها فصلوا وادعوا فسميت الصلاة ذكرا لاشتمالها عليه ، ومدارها إليه كما قال سبحانه  وأقم الصلاة لذكري   وفي رواية  لأبي داود   والنسائي     : إنما هذه الآيات يخوف الله بها عباده فإذا      [ ص: 150 ] رأيتموها فصلوا وتذكروا الخوف .  
وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة فقط دون الخطبة دلالة على أن الخطبة ليست مشروعة ، ولو كانت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - .  
ثم اعلم أن هاهنا أبحاثا منها ما قاله  ابن حجر  من أن حديث الباب لا يدل على أن في كل ركعة قياما واحدا خلافا لمن زعمه .  
قلت دلالته ظاهرة ، وإنكاره مكابرة ثم قال : وعلى التنزل فهو معارض بما هو أصح وأشهر ، قلت : قد رده  ابن الهمام  بما لا مزيد عليه ثم قال : على أنا نقول بموجبه ، فإنا نجوز قياما وقيامين ، فلم نخالف السنة بخلاف من أنكر تعدد القيام ; فإنه خالف السنة الصريحة بلا مستند اللهم إلا أن يقال لم يبلغه ذلك ، قلت : قد بلغهم كما تقدم عن  الإمام محمد  مع تأويله ، وأجابوا بالمعارضة ، ومستندهم الروايات المصرحة بأنه كان قياما واحدا مع أن تجويز القيام والقيامين إنما يصح لو صح تعدد الواقعة ، وهو غير صحيح .  
ثم اعلم أن أهل الهيئة زعموا أن الكسوف أمر عادي لا يتقدم ، ولا يتأخر ورد قولهم عليهم بأنه لو كان بالحساب لم يقع فزع ، ولا أمرنا بنحو العتق ، والصلاة كما في خبر   البخاري  من قوله - صلى الله عليه وسلم -  فإذا رأيتم ذلك فافزعوا ، وكبروا وصلوا وتصدقوا  ، ومقتضاه أن ذلك مما يندفع به ما يخشى من أثر الكسوف الموجب للفزع ، وبما صح من خبر  إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله ، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له     .  
فإن ظاهره أن سبب الكسوف خشوعهما لله تعالى .  
ولعل السر في ذلك أن النور من عالم الجمال الحسي ، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته ، وظهور عظمته ، ومن ثمة  قال   طاوس     : لما نظر للشمس ، وهي كاسفة فبكى حتى كاد أن يموت ، وقال هي أخوف لله منا     .  
وبما تقرر من صحة الحديث ، وظهور معناه اندفع قول   الغزالي  أنه لم يثبت فيجب تكذيب ناقله ، ولو صح كان تأويله سهل من مكابرة أمور قطعية لا تصادم من أصل الأصول الشرعية انتهى .  
لكن قال  ابن دقيق العيد     : لا تنافي بين الحديث ، وبين ما قالوا : فإن لله أفعالا على حسب العادة واقعة لا خارجة عنها وقدرته حاكمة على كل سبب يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض ، وحينئذ فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة ، وأنه يفعل ما يشاء وإذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد ، وذلك لا يمنع أن ثمة أسبابا تجري عليها بالعادة إلى أن يشاء الله خرقها .  
وحاصله أن ما ذكروه إن كان حقا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك تخويفا لعباده ، هذا والحديث أخرجه  أحمد  وصححه   ابن خزيمة   والطبراني   وابن حبان  كلهم من طريق   عطاء بن السائب  عن   عبد الله بن عمرو     .  
وقال العلماء : في هذه الأحاديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض وهو نحو قوله في الحديث الآخر  يقولون مطرنا بنوء كذا     .  
قال  الخطابي     : كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض موتا أو ضررا فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل ، وأن  الشمس والقمر خلقان مسخران لله   ليس لهما سلطان في غيرهما ، ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما .  
وفيه بيان      [ ص: 151 ] ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة على أمته وشدة الخوف من ربه .  
				
						
						
