الفصل الأول : في  حكم عقد قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من وقت نبوته   
اعلم - منحنا الله ، وإياك توفيقه - ، أن ما تعلق منه بطريق التوحيد ، والعلم بالله ، وصفاته ، والإيمان به ، وبما أوحي إليه فعلى غاية المعرفة ، ووضوح العلم ، واليقين ، والانتفاء عن الجهل بشيء من ذلك ، أو الشك أو الريب فيه ، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين .  
هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه ، ولا يصح بالبراهين الواضحة أن يكون في عقود الأنبياء سواه ، ولا يعترض على هذا بقول  إبراهيم      - عليه السلام - .  قال بلى ولكن ليطمئن قلبي   إذ لم يشك  إبراهيم   في إخبار الله - تعالى - له بإحياء الموتى ، ولكن أراد طمأنينة القلب ، وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء ، فحصل له العلم الأول بوقوعه ، وأراد العلم الثاني بكيفيته ، ومشاهدته .  
الوجه الثاني : أن  إبراهيم      - عليه السلام - إنما أراد اختبار منزلته عند ربه ، وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه ، ويكون قوله - تعالى - :  أولم تؤمن      [ البقرة : 260 ] ، أي تصدق بمنزلتك مني ، وخلتك ، واصطفائك ؟ .  
الوجه الثالث : أنه سأل زيادة يقين ، وقوة طمأنينة ، وإن لم يكن في الأول شك ، إذ العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها ، وطريان الشكوك على الضروريات ممتنع ، ومجوز في النظريات ، فأراد الانتقال من النظر ، والخبر إلى المشاهدة ، والترقي من علم اليقين إلى عين      [ ص: 460 ] اليقين ، فليس الخبر كالمعاينة ، ولهذا قال   سهل بن عبد الله     : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله .  
الوجه الرابع : أنه لما احتج على المشركين بأن ربه يحيي ، ويميت طلب ذلك من ربه ، ليصح احتجاجه عيانا .  
الوجه الخامس : قول بعضهم : هو سؤال على طريق الأدب ، والمراد : أقدرني على إحياء الموتى ، وقوله :  ليطمئن قلبي   عن هذه الأمنية .  
الوجه السادس : أنه أرى من نفسه الشك ، وما شك ، لكن ليجاوب فيزداد قربه .  
وقول نبينا :  نحن أحق بالشك من  إبراهيم   نفي لأن يكون  إبراهيم   شك ، وإبعاد للخواطر الضعيفة أن تظن هذا  بإبراهيم   ، أي نحن موقنون بالبعث ، وإحياء الله الموتى ، فلو شك  إبراهيم   لكنا أولى بالشك منه ، إما على طريق الأدب ، أو أن يريد أمته الذين يجوز عليهم الشك ، أو على طريق التواضع ، والإشفاق إن حملت قصة  إبراهيم   على اختبار حاله ، أو زيادة يقينه .  
فإن قلت : فما معنى قوله :  فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك      [ يونس : 94 ] الآيتين .  
فاحذر ثبت الله قلبك أن يخطر ببالك ما ذكره بعض المفسرين عن   ابن عباس  أو غيره من إثبات شك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه ، وأنه من البشر ، فمثل هذا لا يجوز عليه جملة ، بل قد  قال   ابن عباس  ، وغيره : لم يشك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يسأل     .  
ونحوه عن  ابن جبير  ،  والحسن     .  
وحكى  قتادة  أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال : ما أشك ، ولا أسأل  وعامة المفسرين على هذا .  
واختلفوا في معنى الآية : فقيل : المراد قل يا  محمد   للشاك :  فإن كنت في شك      [ يونس : 94 ] الآية . .  
قالوا : وفي السورة نفسها ما دل على هذا التأويل قوله :  قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني      [ يونس : 104 ] الآية . .  
وقيل : المراد بالخطاب العرب ، وغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال :  لئن أشركت ليحبطن عملك      [ الزمر : 65 ] الآية . الخطاب له ، والمراد غيره .  
ومثله :  فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء      [ هود : 109 ] ، ونظيره كثير .  
قال  بكر بن العلاء     : ألا تراه يقول :  ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله   ؟ [ يونس : 95 ] الآية . وهو - صلى الله عليه وسلم - كان المكذب فيما يدعو إليه ، فكيف يكون ممن كذب به ؟ .  
 [ ص: 461 ] فهذا كله يدل على أن المراد بالخطاب غيره .  
ومثل هذه الآية قوله :  الرحمن فاسأل به خبيرا      [ الفرقان : 59 ] المأمور هاهنا غير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليسأل النبي ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الخبير المسئول ، لا المستخبر السائل .  
وقال : إن هذا الشك الذي أمر به غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الذين يقرءون الكتاب إنما هو فيما قصه الله من أخبار الأمم ، لا فيما دعا إليه من التوحيد ، والشريعة .  
ومثل هذا قوله - تعالى - :  واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا      [ الزخرف : 45 ] الآية . المراد به المشركون ، والخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله  القتيبي     .  
وقيل معناه : سلنا عمن أرسلنا من قبلك ، فحذف الخافض ، وتم الكلام ، ثم ابتدأ :  أجعلنا من دون الرحمن      [ الزخرف : 45 ] الآية . إلى آخر الآية ، على طريق الإنكار ، أي ما جعلنا ، حكاه   مكي     .  
وقيل : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل الأنبياء ليلة الإسراء عن ذلك ، فكان أشد يقينا من أن يحتاج إلى السؤال .  
فروي أنه قال :  لا أسأل ، قد اكتفيت  قاله  ابن زيد     .  
وقيل : سل أمم من أرسلنا ، هل جاءوهم بغير التوحيد ؟ ، وهو معنى قول  مجاهد  ،  والسدي  ،  والضحاك  ،  وقتادة     .  
والمراد بهذا ، والذي قبله إعلامه - صلى الله عليه وسلم - بما بعثت به الرسل ، وأنه - تعالى - لم يأذن في عبادة غيره لأحد ، ردا على مشركي العرب ، وغيرهم ، في قولهم : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى .  
وكذلك قوله - تعالى - :  والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين      [ الأنعام : 114 ] ، أي في عملهم بأنك رسول الله ، وإن لم يقروا بذلك ، وليس المراد به شكه فيما ذكر في أول الآية .  
وقد يكون أيضا على مثل ما تقدم ، أي قل يا  محمد   لمن امترى في ذلك : لا تكونن من الممترين ، بدليل قوله أول الآية :  أفغير الله أبتغي حكما      [ الأنعام : 114 ] ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بذلك غيره .  
وقيل : هو تقرير ، كقوله - تعالى - :  أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله      [ المائدة : 116 ] ، وقد علم أنه لم يقل .  
وقيل : معناه ما كنت في شك فاسأل تزدد طمأنينة ، وعلما إلى علمك ويقينك .  
وقيل : إن كنت تشك فيما شرفناك ، وفضلناك به فسلهم عن صفتك في الكتب ، ونشر فضائلك .  
وحكي عن  أبي عبيدة  أن المراد : إن كنت في شك من غيرك فيما أنزلنا .  
فإن قيل : فما معنى قوله :  حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا      [ يوسف : 110 ] على قراءة التخفيف ؟  
قلنا : المعنى في ذلك ما  قالته  عائشة     - رضي الله عنها - : معاذ الله أن تظن ذلك الرسل      [ ص: 462 ] بربها ، وإنما معنى ذلك أن الرسل لما استيأسوا ظنوا أن من وعدهم النصر من أتباعهم كذبوهم  ، وعلى هذا أكثر المفسرين .  
وقيل : إن الضمير في [ ظنوا ] عائد على الأتباع ، والأمم ، لا على الأنبياء والرسل ، وهو قول   ابن عباس  ،  والنخعي  ،   وابن جبير  ، وجماعة من العلماء .  
وبهذا المعنى قرأ  مجاهد     [ كذبوا ] بالفتح ، فلا تشغل بالك من شاذ التفسير بسواه مما لا يليق بمنصب العلماء ، فكيف بالأنبياء ؟ ! .  
وكذلك ما ورد في حديث السيرة ، ومبتدأ الوحي ، من قوله - صلى الله عليه وسلم -  لخديجة     :  لقد خشيت على نفسي  ليس معناه الشك فيما آتاه الله بعد رؤية الملك ، ولكن لعله خشي ألا تحتمل قوته مقاومة الملك ، وأعباء الوحي ، فينخلع قلبه ، أو تزهق نفسه .  
وهذا على ما ورد في الصحيح : أنه قاله بعد لقائه الملك ، أو يكون ذلك قبل لقياه ، وإعلام الله له بالنبوة لأول ما عرضت عليه من العجائب ، وسلم عليه الحجر والشجر ، وبدأته المنامات والتباشير ، كما روي في بعض طرق هذا الحديث : أن ذلك كان أولا في المنام ، ثم أري في اليقظة مثل ذلك ، تأنيسا له - عليه السلام - ، لئلا يفجأه الأمر مشاهدة ، ومشافهة ، فلا يحتمله لأول حالة بنية البشرية .  
وفي الصحيح عن  عائشة     - رضي الله عنها - :  أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، قالت : ثم حبب إليه الخلاء ، وقالت : إلى أن جاءه الحق ، وهو في غار حراء     . . . الحديث .  
وعن   ابن عباس     :  مكث النبي - صلى الله عليه وسلم -  بمكة   خمس عشرة سنة يسمع الصوت ، ويرى الضوء سبع سنين ، ولا يرى شيئا ، وثمان سنين يوحى إليه     .  
وقد روى   ابن إسحاق  عن بعضهم  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ، وذكر جواره  بغار حراء   ، قال : فجاءني وأنا نائم فقال : اقرأ ، فقلت ما أقرأ ؟  ، وذكر نحو حديث  عائشة  في      [ ص: 463 ] غطه له ، وإقرائه له :  اقرأ باسم ربك الذي خلق      [ العلق : 1 ] السورة .  
قال :  فانصرف عني ، وهببت من نومي كأنما صورت في قلبي ، ولم يكن أبغض إلي من شاعر أو مجنون .  
قلت : لا تحدث عني  قريش   بهذا أبدا ، لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه ، فلأقتلنها فبينا أنا عامد لذلك إذ سمعت مناديا ينادي من السماء : يا  محمد   ، أنت رسول الله ، وأنا  جبريل   ، فرفعت رأسي فإذا  جبريل   على صورة رجل     . . . وذكر الحديث .  
فقد بين في هذا أن قوله لما قال ، وقصده لما قصد ، إنما كان قبل لقاء  جبريل      - عليهما السلام - ، وقبل إعلام الله - تعالى - له بالنبوة ، وإظهاره واصطفائه له بالرسالة .  
ومثله حديث   عمرو بن شرحبيل  أنه - صلى الله عليه وسلم - قال  لخديجة     :  إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد خشيت ، والله أن يكون هذا لأمر     .  
ومن رواية   حماد بن سلمة  أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال  لخديجة     :  إني لأسمع صوتا ، وأرى ضوءا ، وأخشى أن يكون بي جنون     .  
وعلى هذا يتأول لو صح قوله في بعض هذه الأحاديث :  إن الأبعد شاعر أو مجنون  ، وألفاظا يفهم منها معاني الشك في تصحيح ما رآه ، وأنه كان كله في ابتداء أمره ، وقبل لقاء الملك له ، وإعلام الله أنه رسوله ، فكيف وبعض هذه الألفاظ لا تصح طرقها .  
وأما بعد إعلام الله - تعالى - له ، ولقائه الملك فلا يصح فيه ريب ، ولا يجوز عليه شك فيما ألقي إليه .  
وقد روى   ابن إسحاق  عن شيوخه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  كان يرقى  بمكة   من العين قبل أن ينزل عليه ، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه ، فقالت له   خديجة     : أوجه إليك من يرقيك ؟ قال : أما الآن فلا     .  
وحديث   خديجة  ، واختبارها أمر  جبريل   بكشف رأسها . [ الحديث ] إنما ذلك في حق   خديجة  لتتحقق صحة نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الذي يأتيه ملك ، ويزول الشك عنها ، لا أنها فعلت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليختبر هو حاله بذلك .  
بل قد ورد في حديث  عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة  ، عن  هشام  ، عن أبيه ، عن  عائشة  أن  ورقة  أمر   خديجة  أن تخبر الأمر بذلك     .  
وفي حديث  إسماعيل بن أبي حكيم  أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  يا ابن عم ، هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك إذا جاءك ؟ قال : نعم ، فلما جاء  جبريل   أخبرها ، فقالت له : اجلس إلى شقي     . . . وذكر الحديث إلى آخره ، وفيه :  قالت : ما هذا      [ ص: 464 ] بشيطان هذا الملك يا ابن عم ، فاثبت ، وأبشر ، وآمنت به     .  
فهذا يدل على أنها مستثبتة بما فعلته لنفسها ، ومستظهرة لإيمانها ، لا للنبي - صلى الله عليه وسلم - .  
وقول  معمر  في  فترة الوحي      :  فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كاد يتردى من شواهق الجبال     . لا يقدح في هذا الأصل ، لقول  معمر  عنه فيما بلغنا ، ولم يسنده ، ولا ذكر رواته ، ولا من حدث به ، ولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله ، ولا يعرف مثل هذا إلا من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه ، أو أنه فعل ذلك لما أخرجه من تكذيب من بلغه ، كما قال - تعالى - :  فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا      [ الكهف : 6 ] .  
ويصحح معنى هذا التأويل حديث رواه  شريك  ، عن  محمد بن عبد الله بن عقيل  ، عن   جابر بن عبد الله  أن  المشركين لما اجتمعوا بدار الندوة للتشاور في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واتفق رأيهم على أن يقولوا : إنه ساحر اشتد ذلك عليه ، وتزمل في ثيابه ، وتدثر فيها ، فأتاه  جبريل   فقال :  ياأيها المزمل      [ المزمل : 1 ]  ياأيها المدثر      [ المدثر : 1 ]     .  
أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه ، فخشي أن تكون عقوبة من ربه ، ففعل ذلك بنفسه ، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن ذلك ، فيعترض به .  
ونحو هذا فرار  يونس      - عليه السلام - خشية تكذيب قومه له ، لما وعدهم به من العذاب ، وقول الله في  يونس      :  فظن أن لن نقدر عليه      [ الأنبياء : 87 ] معناه أن لن نضيق عليه .  
قال   مكي     : طمع في رحمة الله ، وأن لا يضيق عليه مسلكه في خروجه .  
وقيل : حسن ظنه بمولاه أنه لا يقضي عليه العقوبة .  
وقيل : نقدر عليه ما أصابه .  
وقد قرئ : نقدر عليه بالتشديد .  
وقيل : نؤاخذه بغضبه ، وذهابه .  
وقال  ابن زيد     : معناه : أفظن أن لن نقدر عليه ؟ على الاستفهام .  
ولا يليق أن يظن بنبي أنه يجهل صفة من صفات ربه .  
وكذلك قوله :  إذ ذهب مغاضبا      [ الأنبياء : 87 ] الصحيح مغاضبا لقومه لكفرهم ، وهو قول   ابن عباس  ،  والضحاك  ، وغيرهما ، لا لربه عز وجل ، إذ مغاضبة الله معاداة له ، ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين ، فكيف بالأنبياء ؟ !  
وقيل : مستحييا من قومه أن يسموه بالكذب أو يقتلوه ، كما ورد في الخبر .  
وقيل : مغاضبا لبعض الملوك فيما أمره به من التوجه إلى أمر أمره الله به على لسان نبي آخر ، فقال له  يونس      : غيري أقوى عليه مني ، فعزم      [ ص: 465 ] عليه فخرج لذلك مغاضبا .  
وقد روي عن   ابن عباس  ، أن إرسال  يونس   ، ونبوته إنما كان بعد أن نبذه الحوت ، واستدل من الآية بقوله :  فنبذناه بالعراء وهو سقيم   وأنبتنا عليه شجرة من يقطين   وأرسلناه إلى مائة ألف      [ الصافات : 145 - 147 ] .  
ويستدل أيضا بقوله :  ولا تكن كصاحب الحوت      [ القلم : 48 ] ، وذكر القصة .  
ثم قال :  فاجتباه ربه فجعله من الصالحين      [ القلم : 50 ] ، فتكون هذه القصة إذا قبل نبوته .  
فإن قيل : فما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - :  إنه ليغان على قلبي ، فأستغفر الله كل يوم مائة مرة     .  
وفي طريق :  في اليوم أكثر من سبعين مرة     .  
فاحذر أن يقع ببالك أن يكون هذا الغين ، وسوسة أو ريبا ، وقع في قلبه - عليه السلام - ، بل أصل الغين في هذا : ما يتغشى القلب ، ويغطيه ، قاله  أبو عبيد  ، وأصله من غين السماء ، وهو إطباق الغيم عليها .  
وقال غيره : والغين شيء يغشي القلب ، ولا يغطيه كل التغطية ، كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يمنع ضوء الشمس .  
وكذلك لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة أو أكثر من سبعين مرة في اليوم ، إذ ليس يقتضيه لفظه الذي ذكرناه ، وهو أكثر الروايات ، وإنما هذا عدد للاستغفار لا للغين ، فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه ، وفترات نفسه ، وسهوها عن مداومة الذكر ، ومشاهدة الحق بما كان - صلى الله عليه وسلم - دفع إليه من مقاساة البشر ، وسياسة الأمة ، ومعاناة الأهل ، ومقاومة الولي ، والعدو ، ومصلحة النفس ، وكلفه من أعباء أداء الرسالة ، وحمل الأمانة ، وهو في كل هذا في طاعة ربه ، وعبادة خالقه ، ولكن لما كان - صلى الله عليه وسلم - أرفع الخلق عند الله مكانة ، وأعلاهم درجة ، وأتمهم به معرفة ، وكانت حاله عند خلوص قلبه ، وخلو همته ، وتفرده بربه ، وإقباله بكليته عليه ، ومقامه هنالك أرفع حاليه رأى - صلى الله عليه وسلم - حال فترته عنها ، وشغله بسواها ، غضا من علي حاله ، وخفضا من رفيع مقامه ، فاستغفر الله من ذلك . هذا أولى وجوه الحديث ، وأشهرها .  
وإلى معنى ما أشرنا به مال كثير من الناس ، وحام حوله ، فقارب ، ولم يرد .  
وقد قربنا غامض معناه ، وكشفنا للمستفيد محياه ، وهو مبني على جواز  الفترات ، والغفلات ، والسهو   في غير طريق البلاغ ، على ما سيأتي .  
وذهبت طائفة من أرباب القلوب ، ومشيخة المتصوفة ، ممن قال بتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا جملة ، وأجله أن يجوز عليه في حال سهو أو فترة إلى أن معنى الحديث : ما يهم خاطره ، ويغم فكره من أمر أمته - صلى الله عليه وسلم - ، لاهتمامه بهم ، وكثرة شفقته عليهم ، فيستغفر لهم .  
قالوا : وقد يكون الغين هنا على قلبه السكينة تتغشاه ، لقوله - تعالى - :  فأنزل الله سكينته عليه      [ التوبة : 40 ] ، ويكون استغفاره - صلى الله عليه وسلم - عندها إظهارا للعبودية ، والافتقار .  
قال  ابن عطاء     : استغفاره      [ ص: 466 ] وفعله هذا تعريف للأمة بحملهم على الاستغفار .  
وقال غيره : ويستشعرون الحذر ، ولا يركنون إلى الأمن .  
وقد يحتمل أن تكون هذه الإعانة حالة خشية ، وإعظام تغشى قلبه ، فيستغفر حينئذ شكرا لله ، وملازمة لعبوديته ، كما قال في ملازمة العبادة :  أفلا أكون عبدا شكورا     .  
وعلى هذه الوجوه الأخيرة يحمل ما روي في بعض طرق هذا الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - :  إنه ليغان على قلبي في اليوم أكثر من سبعين مرة ، فأستغفر الله     .  
فإن قلت : فما معنى قوله - تعالى -  لمحمد      - صلى الله عليه وسلم - :  ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين      [ الأنعام : 35 ] .  
وقوله  لنوح      - عليه السلام - :  ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين      [ هود : 46 ] ؟ .  
فاعلم أنه لا يلتفت في ذلك إلى قول من قال في آية نبينا - صلى الله عليه وسلم - : لا تكونن ممن يجهل أن الله لو شاء لجمعهم على الهدى . وفي آية  نوح      : لا تكونن ممن يجهل أن وعد الله حق ، لقوله :  وإن وعدك الحق   إذ فيه إثبات الجهل بصفة من صفات الله ، وذلك لا يجوز على الأنبياء .  
والمقصود ، وعظهم ألا يتشبهوا في أمورهم بسمات الجاهلين ، كما قال :  إني أعظك      . وليس في آية منهما دليل على كونهم على تلك الصفة التي نهاهم عن الكون عليها ، فكيف ؟ ، وآية  نوح   قبلها :  ما ليس لك به علم إني أعظك      [ هود : 46 ] . فحمل ما بعدها على ما قبلها أولى ، لأن مثل هذا قد يحتاج إلى إذن .  
وقد تجوز إباحة السؤال فيه ابتداء ، فنهاه الله أن يسأله عما طوى عنه علمه ، وأكنه من غيبه من السبب الموجب لهلاك ابنه .  
ثم أكمل الله - تعالى - نعمته عليه بإعلامه ذلك بقوله :  إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح      . [ هود : 46 ] حكى معناه   مكي     .  
كذلك أمر نبينا في الآية الأخرى بالتزام الصبر على إعراض قومه ، ولا يحرج عند ذلك ، فيقارب حال الجاهل بشدة التحسر . حكاه   ابن فورك     .  
وقيل : معنى الخطاب لأمة  محمد   ، أي فلا تكونوا من الجاهلين . حكاه  أبو محمد مكي  ، وقال : مثله في القرآن كثير .  
فبهذا الفضل وجب القول بعصمة الأنبياء منه بعد النبوة قطعا .  
فإن قلت : فإذا قررت عصمتهم من هذا ، وأنه لا يجوز عليهم شيء من ذلك فما معنى إذا وعيد الله لنبينا - صلى الله عليه وسلم - على ذلك إن فعله ، وتحذيره منه ، كقوله :  لئن أشركت ليحبطن عملك      [ الزمر : 65 ] الآية . .  
وقوله - تعالى - :      [ ص: 467 ] ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك      [ يونس : 106 ] الآية . .  
وقوله - تعالى - :  إذا لأذقناك ضعف الحياة      [ الإسراء : 75 ] الآية . .  
وقوله :  لأخذنا منه باليمين      [ الحاقة : 45 ] .  
وقوله :  وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله      [ الأنعام : 116 ] .  
وقوله :  فإن يشأ الله يختم على قلبك      [ الشورى : 24 ] .  
وقوله :  وإن لم تفعل فما بلغت رسالته      [ المائدة : 67 ] .  
وقوله :  اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين      [ الأحزاب : 1 ] .  
فاعلم وفقنا الله ، وإياك أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يصح ، ولا يجوز عليه ، ألا يبلغ وأن يخالف أمر ربه ، ولا أن يشرك به ، ولا يتقول على الله ما لا يحب ، أو يفتري عليه ، أو يضل أو يختم على قلبه ، أو يطيع الكافرين ، لكن يسر أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ للمخالفين ، وأن إبلاغه إن لم يكن بهذه السبيل فكأنه ما بلغ .  
وطيب نفسه ، وقوى قلبه بقوله :  والله يعصمك من الناس      [ المائدة : 67 ] ، كما قال  لموسى   ،  وهارون      :  لا تخافا      [ طه : 46 ] ، لتشتد بصائرهم في الإبلاغ ، وإظهار دين الله ، ويذهب عنهم خوف العدو المضعف للنفس .  
وأما قوله - تعالى - :  ولو تقول علينا بعض الأقاويل      [ الحاقة : 44 ] الآية . .  
وقوله :  إذا لأذقناك ضعف الحياة      [ الإسراء : 75 ] فمعناه أن هذا جزاء من فعل هذا وجزاؤك لو كنت ممن يفعله ، وهو لا يفعله .  
وكذلك قوله :  وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله      [ الأنعام : 116 ] ، فالمراد غيره ، كما قال :  إن تطيعوا الذين كفروا      [ آل عمران : 149 ] الآية . .  
وقوله :  فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور      [ الشورى : 24 ] ، و  لئن أشركت ليحبطن عملك      [ الزمر : 65 ] ، وما أشبهه ، فالمراد غيره ، وأن هذه حال من أشرك ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز عليه هذا .  
وقوله :  اتق الله ولا تطع الكافرين      [ الأحزاب : 1 ] فليس فيه أنه أطاعهم ، والله ينهاه عما يشاء ، ويأمره بما يشاء ، كما قال :  ولا تطرد الذين يدعون ربهم      [ الأنعام : 52 ] الآية . .  
وما كان طردهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولا كان من الظالمين .  
				
						
						
