الفصل التاسع :  عصمة الأنبياء في الأعمال   
وأما ما يتعلق بالجوارح من الأعمال ، ولا يخرج من جملتها القول باللسان فيما عدا الخبر الذي وقع فيه الكلام ، والاعتماد بالقلب فيما عدا التوحيد ، وما قدمناه من معارفه المختصة به فأجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش ، والكبائر الموبقات . ومستند الجمهور في ذلك الإجماع الذي ذكرناه .  
وهو مذهب  القاضي أبي بكر  ، ومنعها غيره بدليل العقل مع الإجماع ، وهو قول الكافة ، واختاره الأستاذ  أبو إسحاق     .  
وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من كتمان الرسالة ، والتقصير في التبليغ ، لأن كل ذلك يقتضي العصمة منه المعجزة ، مع الإجماع على ذلك من الكافة .  
والجمهور قائلون بأنهم معصومون من ذلك من قبل الله معتصمون باختيارهم ، وكسبهم إلا  حسينا النجار  ، فإنه قال : لا قدرة لهم على المعاصي أصلا .  
وأما الصغائر فجوزها جماعة من السلف ، وغيرهم على الأنبياء ، وهو مذهب   أبي جعفر الطبري  ، وغيره من الفقهاء ، والمحدثين ، والمتكلمين . وسنورد بعد هذا ما احتجوا به .  
وذهبت طائفة أخرى إلى الوقف ، وقالوا : العقل لا      [ ص: 489 ] يحيل وقوعها منهم ، ولم يأت في الشرع قاطع بأحد الوجهين .  
وذهبت طائفة أخرى من المحققين ، والمتكلمين إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، قالوا : لاختلاف الناس في الصغائر ، وتعيينها من الكبائر ، وإشكال ذلك ،  وقول   ابن عباس  ، وغيره : إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة  ، وأنه إنما سمي منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ، ومخالفة الباري في أمر كان يجب كونه كبيرة .  
قال القاضي  أبو محمد عبد الوهاب     : لا يمكن أن يقال : إن في معاصي الله صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ، ولا يكون لها حكم مع ذلك بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء . والمشيئة في العفو عنها إلى الله - تعالى - ، وهو قول  القاضي أبي بكر  ، وجماعة أئمة  الأشعرية   ، وكثير من أئمة الفقهاء .  
وقال بعض أئمتنا : ولا يجب على القولين أن يختلف أنهم معصومون عن تكرار الصغائر ، وكثرتها ، إذ يلحقها ذلك بالكبائر ، ولا في صغيرة أدت إلى إزالة الحشمة ، وأسقطت المروءة ، وأوجبت الإزراء ، والخساسة ، فهذا أيضا مما يعصم عنه الأنبياء إجماعا ، لأن مثل هذا يحط منصبه المتسم به ، ويزري بصاحبه ، وينفر القلوب عنه ، والأنبياء منزهون عن ذلك بل يلحق بهذا ما كان من قبيل المباح ، فأدى إلى مثله ، لخروجه بما أدى إليه عن اسم المباح إلى الحظر .  
وقد ذهب بعضهم إلى عصمتهم من مواقعة المكروه قصدا . وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم ، واتباع آثارهم ، وسيرهم مطلقا .  
وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب  مالك  ،   والشافعي  ،  وأبي حنيفة  من غير التزام قرينة ، بل مطلقا عند بعضهم ، وإن اختلفوا في حكم ذلك .  
وحكى  ابن خويز منداذ  وأبو الفرج  عن  مالك  التزام ذلك وجوبا ، وهو قول  الأبهري  وابن القصار  ، وأكثر أصحابنا .  
وقول أكثر  أهل  العراق    وابن سريج  والإصطخري   وابن خيران  من  الشافعية      .  
وأكثر  الشافعية   على أن ذلك ندب .  
وذهب طائفة إلى الإباحة .  
وقيد بعضهم الاتباع فيما كان من الأمور الدينية ، وعلم به مقصد القربة .  
ومن قال بالإباحة في أفعاله لم يقيد . قال : فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم في أفعالهم ، إذ ليس كل فعل من أفعاله يتميز مقصده من القربة أو الإباحة ، أو الحظر ، أو المعصية . ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية ، لا سيما على من يرى من الأصوليين تقديم الفعل على القول إذا تعارضا .  
نزيد هذا حجة بأن نقول : من جوز الصغائر ، ومن نفاها عن      [ ص: 490 ] نبينا - صلى الله عليه وسلم - مجمعون على أنه لا يقر على منكر من قول أو فعل ، وأنه متى رأى شيئا فسكت عنه - صلى الله عليه وسلم - دل على جوازه ، فكيف يكون هذا حاله في حق غيره ، ثم يجوز وقوعه منه في نفسه .  
وعلى هذا المأخذ تجب عصمتهم من مواقعة المكروه ، كما قيل . وإذ الحظر أو الندب على الاقتداء بفعله ينافي الزجر والنهي عن فعل المكروه .  
وأيضا فقد علم من دين الصحابة قطعا الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف توجهت ، ومن كل فن كالاقتداء بأقواله ، فقد نبذوا خواتيمهم حين نبذ خاتمه ، وخلعوا نعالهم حين خلع ، واحتجاجهم برؤية   ابن عمر  إياه جالسا لقضاء حاجته مستقبلا  بيت المقدس      .  
واحتج غير واحد منهم في غير شيء مما بابه العبادة أو العادة بقوله : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ، وقال :  هلا خبرتيها أني أقبل ، وأنا صائم !  وقالت  عائشة  محتجة : كنت أفعله أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - .  
وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذي أخبر بمثل هذا عنه ، وقال : يحل الله لرسوله ما يشاء وقال :  إني لأخشاكم لله ، وأعلمكم بحدوده     .  
والآثار في هذا أكثر من أن نحيط عليها ، لكنه يعلم من مجموعها على القطع اتباعهم أفعاله ، واقتداؤهم بها . ولو جوزوا عليه المخالفة في شيء منها لما اتسق هذا ولنقل عنهم ، وظهر بحثهم عن ذلك ، ولما أنكر - صلى الله عليه وسلم - على الآخر قوله ، واعتذاره بما ذكرناه .  
وأما  المباحات   فجائز وقوعها منهم ، إذ ليس فيها قدح ، بل هي مأذون فيها ، وأيديهم كأيدي غيرهم مسلطة عليها ، إلا أنهم بما خصوا به من رفيع المنزلة ، وشرحت له صدورهم من أنوار المعرفة ، واصطفوا به من تعلق هممهم بالله والدار الآخرة لا يأخذون من المباحات إلا الضرورات مما يتقوون به على سلوك طريقهم ، وصلاح دينهم ، وضرورة دنياهم ، وما أخذ على هذه السبيل التحق طاعة ، وصار قربة ، كما بينا منه أول الكتاب طرفا في خصال نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، فبان لك عظيم فضل الله على نبينا ، وعلى سائر أنبيائه - عليهم السلام - بأن جعل أفعالهم قربات ، وطاعات بعيدة عن وجه المخالفة ، ورسم المعصية .  
				
						
						
