الفصل الحادي عشر : حكم السهو والنسيان في الأفعال
هذا حكم ما تكون المخالفة فيه من الأعمال عن قصد ، وهو ما يسمى معصية ، ويدخل تحت التكليف . وأما ما يكون بغير قصد وتعمد ، كالسهو والنسيان في الوظائف الشرعية مما تقرر الشرع بعدم تعلق الخطاب به ، وترك المؤاخذة عليه ، فأحوال الأنبياء في ترك المؤاخذة به ، وكونه ليس بمعصية لهم مع أممهم سواء . ثم ذلك على نوعين : ما طريقه البلاغ ، وتقرير الشرع ، وتعلق الأحكام ، وتعليم الأمة بالفعل ، وأخذهم باتباعه فيه ، وما هو خارج عن هذا مما يختص بنفسه .
أما الأول فحكمه عند جماعة من العلماء حكم السهو في القول في هذا الباب .
وقد ذكرنا الاتفاق على امتناع ذلك في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعصمته من جوازه عليه قصدا أو سهوا ، فكذلك قالوا : الأفعال في هذا الباب لا يجوز طرو المخالفة فيها لا عمدا ولا سهوا ، لأنها بمعنى القول من جهة التبليغ والأداء ، وطرو هذه العوارض عليها يوجب التشكيك ، ويسبب المطاعن .
واعتذروا عن أحاديث السهو بتوجيهات نذكرها بعد هذا . وإلى هذا مال أبو إسحاق .
وذهب الأكثر من الفقهاء والمتكلمين إلى أن المخالفة في الأفعال البلاغية ، والأحكام الشرعية سهوا ، وعن غير قصد منه جائزة عليه ، كما تقرر من أحاديث السهو في الصلاة ، وفرقوا بين ذلك ، وبين الأقوال البلاغية لقيام المعجزة على الصدق في القول ، ومخالفة ذلك يناقضها .
وأما السهو في الأفعال فغير مناقض لها ، ولا قادح في النبوة ، بل غلطات الفعل ، وغفلات القلب من سمات البشر ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : نعم ، بل حالة النسيان والسهو هنا في حقه - صلى الله عليه وسلم - سبب إفادة علم ، وتقرير شرع ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما أنا بشر ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني إني لأنسى أو أنسى لأسن .
بل قد روي : لست أنسى ، ولكن أنسى لأسن .
وهذه الحالة زيادة في التبليغ ، وتمام عليه في النعمة بعيدة عن سمات النقص ، واعتراض الطعن ، فإن القائلين بتجويز ذلك يشترطون أن الرسل لا تقر على السهو ، والغلط ، بل ينبهون عليه ، ويعرفون حكمه بالفور على قول بعضهم ، وهو الصحيح ، وقبل انقراضهم على قول الآخرين .
وأما ما ليس طريقه البلاغ ، ولا بيان الأحكام من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - ، وما يختص به من [ ص: 493 ] أمور دينه ، وأذكار قلبه مما لم يفعله ليتبع فيه ، فالأكثر من طبقات علماء الأمة على جواز السهو والغلط عليه فيها ، ولحوق الفترات ، والغفلات بقلبه ، وذلك بما كلفه من مقاساة الخلق ، وسياسات الأمة ، ومعاناة الأهل ، وملاحظة الأعداء ، ولكن ليس على سبيل التكرار ، ولا الاتصال ، بل على سبيل الندور ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : . إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله
وليس في هذا شيء يحط من رتبته ، ويناقض معجزته .
وذهبت طائفة إلى منع السهو ، والنسيان ، والغفلات ، والفترات في حقه - صلى الله عليه وسلم - جملة .
وهو مذهب جماعة المتصوفة ، وأصحاب علم القلوب ، والمقامات ، ولهم في هذه الأحاديث مذاهب نذكرها بعد هذا إن شاء الله .