الفصل الثالث عشر : في  الرد على من أجاز عليهم الصغائر   ، والكلام على ما احتجوا به في ذلك  
اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء ، والمحدثين ، ومن شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن والحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر ، وخرق الإجماع ، وهو ما لا يقول به مسلم ، فكيف ، وكل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ، وتقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك ، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعا ، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديما ، وقامت الدلالة على خطأ قولهم ، وصحة غيره وجب تركه ، والمصير إلى ما صح .  
وها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .  
فمن ذلك قوله - تعالى - لنبينا - صلى الله عليه وسلم - :  ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر      [ الفتح : 2 ] .  
وقوله :  واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات      [ محمد : 19 ] .  
وقوله :  ووضعنا عنك وزرك   الذي أنقض ظهرك      [ الشرح : 2 - 3 ] الآية . .  
وقوله :  عفا الله عنك لم أذنت لهم      [ التوبة : 43 ] الآية . .  
وقوله :  لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم      [ الأنفال : 68 ] .  
وقوله :  عبس وتولى   أن جاءه الأعمى      [ عبس : 1 - 2 ] الآية .  
وما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله :  وعصى آدم ربه فغوى      [ طه : 121 ] .  
وقوله :  فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون      [ سورة الأعراف 7 الآية : 190 ] .  
وقوله :  ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين      [ الأعراف : 23 ] .  
وقوله عن  يونس      :  سبحانك إني كنت من الظالمين      [ الأنبياء : 87 ] .  
وما ذكره من قصة  داود   ، وقوله :  وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب      [ ص : 25 ] .  
وقوله :  ولقد همت به وهم بها      [ يوسف : 24 ] ، وما قص من قصته مع إخوته .  
وقوله عن  موسى      :  فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان      [ القصص : 15 ] .  
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه :  اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما      [ ص: 497 ] أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت  ونحوه من أدعيته - صلى الله عليه وسلم - .  
وذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .  
وقوله :  إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله     .  
وفي حديث   أبي هريرة     :  إني لأستغفر الله ، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة     . وقوله - تعالى - عن نوح :  وإلا تغفر لي وترحمني      [ هود : 47 ] الآية . .  
وقد كان قال الله له :  ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون      [ هود : 37 ] .  
وقال عن  إبراهيم      :  والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين      [ الشعراء : 82 ] . وقوله عن  موسى      :  تبت إليك      [ الأعراف : 143 ] .  
وقوله :  ولقد فتنا سليمان      [ ص : 34 ] . . . إلى ما أشبه هذه الظواهر .  
فأما احتجاجهم بقوله :  ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر      [ الفتح : 2 ] فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة ، وبعدها .  
وقيل : المراد ما وقع لك من ذنب ، وما لم يقع أعلمه أنه مغفور له .  
وقيل : المتقدم ما كان قبل النبوة ، والمتأخر عصمتك بعدها ، حكاه   أحمد بن نصر     .  
وقيل : المراد بذلك أمته .  
وقيل : المراد ما كان عن سهو ، وغفلة ، وتأويل ، حكاه   الطبري  ، واختاره  القشيري     .  
وقيل : ما تقدم لأبيك  آدم   ، وما تأخر من ذنوب أمتك ، حكاه  السمرقندي  ،  والسلمي  عن  ابن عطاء     .  
وبمثله ، والذي قبله يتأول قوله :  واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات      [ محمد : 19 ] .  
قال   مكي     : مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - هاهنا هي مخاطبة لأمته ، وقيل   : إن      [ ص: 498 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر أن يقول :  وما أدري ما يفعل بي ولا بكم      [ الأحقاف : 9 ] سر بذلك الكفار ، فأنزل الله - تعالى - :  ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر      [ الفتح : 2 ] الآية ، وبمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها ، قاله   ابن عباس  ، فمقصد الآية : إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب أن لو كان . قال بعضهم : المغفرة هاهنا تبرئة من العيوب .  
وأما قوله :  ووضعنا عنك وزرك   الذي أنقض ظهرك      [ الشرح : 2 - 3 ] ، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة ، وهو قول  ابن زيد  ،  والحسن  ، ومعنى قول  قتادة     .  
وقيل : معناه أنه حفظ قبل نبوته منها وعصم ، ولولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه  السمرقندي     .  
وقيل : المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلغها ، حكاه  الماوردي  ،  والسلمي 0     .  
وقيل : حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية ، حكاه   مكي     .  
وقيل : ثقل شغل سرك ، وحيرتك ، وطلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك ، حكى معناه  القشيري     .  
وقيل المعنى : خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت ، وحفظ عليك .  
ومعنى أنقض ظهرك ، أي كاد ينقضه ، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور فعلها قبل نبوته ، وحرمت عليه بعد النبوة ، فعدها أوزارا ، وثقلت عليه ، وأشفق منها .  
أو يكون الوضع عصمة الله له ، وكفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .  
أو يكون من ثقل الرسالة ، أو ما ثقل عليه ، وشغل قلبه من أمور الجاهلية ، وإعلام الله - تعالى - له بحفظ ما استحفظه من وحيه .  
وأما قوله :  عفا الله عنك لم أذنت لهم      [ التوبة : 43 ] فأمر لم يتقدم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه من الله - تعالى - نهي فيعد معصية ، ولا عده الله - تعالى - عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة . وغلطوا من ذهب إلى ذلك ، قال   نفطويه     : وقد حاشاه الله - تعالى - من ذلك ، بل كان مخيرا في أمرين ، قالوا : وقد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي ، فكيف ، وقد قال الله - تعالى - :  فأذن لمن شئت منهم      [ النور : 62 ] . فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس عفا هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  عفا الله لكم عن صدقة الخيل      [ ص: 499 ] والرقيق     . ولم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك .  
ونحوه  للقشيري  ، قال : وإنما يقول العفو لا يكون إلا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب ، ومعنى عفا الله عنك أي لم يلزمك ذنبا .  
قال  الداودي     : روي أنها تكرمة .  
وقال   مكي     : هو استفتاح كلام ، مثل أصلحك الله وأعزك .  
وحكى  السمرقندي  أن معناه عافاك الله .  
وأما  قوله في  أسارى  بدر       :  تريدون عرض الدنيا       [ الأنفال : 67 ] الآية . . فليس فيه إلزام ذنب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل فيه بيان ما خص به ، وفضل من بين سائر الأنبياء ، فكأنه قال : ما كان هذا لنبي غيرك ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - :  أحلت لي الغنائم ، ولم تحل لنبي قبلي     .  
فإن قيل : فما معنى قوله - تعالى - :  تريدون عرض الدنيا      [ الأنفال : 67 ] الآية .  
قيل المعنى : الخطاب لمن أراد ذلك منهم ، وتجرد غرضه لغرض الدنيا وحده ، والاستكثار منها ، وليس المراد بهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا علية أصحابه ، بل قد روي عن  الضحاك  أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم  بدر   ، واشتغل الناس بالسلب ، وجمع الغنائم عن القتال ، حتى خشي  عمر  أن يعطف عليهم العدو .  
ثم قال - تعالى - :  لولا كتاب من الله سبق      [ الأنفال : 68 ] ، فاختلف المفسرون في معنى الآية ، فقيل : معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحدا إلا بعد النهي لعذبتكم .  
فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .  
وقيل المعنى : لولا إيمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم على الغنائم .  
ويزاد هذا القول تفسيرا وبيانا بأن يقال : لولا ما كنتم مؤمنين بالقرآن وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى .  
وقيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .  
فهذا كله ينفي الذنب والمعصية ، لأن من فعل ما أحل له لم يعص ، قال الله - تعالى - :  فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا      [ الأنفال : 69 ] . وقيل : بل كان - صلى الله عليه وسلم - قد خير في ذلك ، وقد روي عن  علي     - رضي الله عنه - ، قال : جاء  جبريل      - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم  بدر   ، فقال : خير أصحابك في الأسارى ،      [ ص: 500 ] إن شاءوا القتل ، وإن شاءوا الفداء ، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم .  
فقالوا : الفداء ، ويقتل منا .  
وهذا دليل على صحة ما قلناه ، وأنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه ، ولكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل ، فعوتبوا على ذلك ، وبين لهم ضعف اختيارهم ، وتصويب اختيار غيرهم ، وكلهم غير عصاة ، ولا مذنبين ، وإلى نحو هذا أشار   الطبري     .  
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه القضية :  لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا  عمر     . إشارة إلى هذا من تصويب رأيه ، ورأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين ، وإظهار كلمته ، وإبادة عدوه ، وأن هذه القضية لو استوجبت عذابا نجا منه  عمر  ومثله ، وعين  عمر  لأنه أول من أشار بقتلهم ، ولكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذابا لحله لهم فيما سبق .  
وقال  الداودي     : والخبر بهذا لا يثبت ، ولو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بما لا نص فيه ، ولا دليل من نص ، ولا جعل الأمر فيه إليه ، وقد نزهه الله - تعالى - عن ذلك .  
وقال  القاضي بكر بن العلاء     : أخبر الله - تعالى - نبيه في هذه الآية أن تأويله ، وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم ، والفداء ، وقد كان قبل هذا فادوا في سرية  عبد الله بن جحش  التي قتل فيها  ابن الحضرمي  بالحكم بن كيسان  وصاحبه ، فما عتب الله ذلك عليهم ، وذلك قبل  بدر   بأزيد من عام .  
فهذا كله يدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن الأسرى كان على تأويل وبصيرة ، وعلى ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله - تعالى - عليهم ، لكن الله - تعالى - أراد لعظم أمر  بدر   ، وكثرة أسراها ، والله أعلم إظهار نعمته ، وتأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم ، لا على وجه عتاب وإنكار وتذنيب . هذا معنى كلامه .  
وأما قوله :  عبس وتولى أن جاءه الأعمى      [ عبس : 1 ] الآيات .  
فليس فيه إثبات ذنب له - صلى الله عليه وسلم - ، بل إعلام الله أن ذلك المتصدى له ممن لا يتزكى ، وأن الصواب والأولى كان لو كشف لك حال الرجلين الإقبال على الأعمى .  
وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فعل ، وتصديه لذلك الكافر ، كان طاعة لله ، وتبليغا عنه ، واستئلافا له ، كما شرعه الله له لا معصية ولا مخالفة له .  
وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين ، وتوهين أمر الكافر عنده ، والإشارة إلى الإعراض عنه بقوله :  وما عليك ألا يزكى   وقيل : أراد بعبس وتولى الكافر الذي كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قاله  أبو تمام     .  
 [ ص: 501 ] وأما  قصة  آدم      - عليه السلام - ، وقوله - تعالى - :  فأكلا منها       [ طه : 121 ] بعد قوله :  ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين      [ البقرة : 35 ] . وقوله  ألم أنهكما عن تلكما الشجرة      [ الأعراف : 22 ] ، وتصريحه - تعالى - عليه بالمعصية بقوله - تعالى - :  وعصى آدم ربه فغوى      [ طه : 121 ] ، أي جهل .  
وقيل : أخطأ ، فإن الله - تعالى - قد أخبر بعذره بقوله :  ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما      [ طه : 115 ] ، قال  ابن زيد     : نسي عداوة إبليس له ، وما عهد الله إليه من ذلك بقوله :  إن هذا عدو لك ولزوجك      [ طه : 117 ] الآية .  
وقيل : نسي ذلك بما أظهر لهما .  
وقال   ابن عباس     : إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي     .  
وقيل : لم يقصد المخالفة استحلالا لها ، ولكنهما اغترا بحلف إبليس لهما :  إني لكما لمن الناصحين      [ الأعراف : 21 ] ، وتوهما أن أحدا لا يحلف بالله حانثا .  
وقد روي عذر  آدم   بمثل هذا في بعض الآثار .  
وقال  ابن جبير     : حلف بالله لهما حتى غرهما ، والمؤمن يخدع .  
وقد قيل : نسي ، ولو لم ينو المخالفة ، فلذلك قال :  ولم نجد له عزما   أي قصدا للمخالفة .  
وأكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم والصبر .  
وقيل : كان عند أكله سكران وهذا فيه ضعف ، لأن الله - تعالى - وصف خمر الجنة أنها لا تسكر ، فإذا كان ناسيا لم تكن معصية ، وكذلك إن كان ملبسا عليه غالطا ، إذ الاتفاق على خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف .
قال الشيخ   أبو بكر بن فورك  وغيره : إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة ، ودليل ذلك قوله - تعالى - :  فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى      [ طه : 121 ] ، فذكر أن الاجتباء ، والهداية كانا بعد العصيان .  
وقيل : بل أكلها متأولا ، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها ، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس ، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ ، لا من المخالفة .  
وقيل : تأول أن الله لم ينهه عنها نهي تحريم .  
فإن قيل : فعلى كل حال فقد قال الله - تعالى - :  وعصى آدم ربه   وقال :  فتاب عليه وهدى      [ طه : 121 ] . وقوله في حديث الشفاعة :  ويذكر ذنبه ، وقال : إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت  ، فسيأتي الجواب عنه ، وعن أشباهه مجملا آخر الفصل إن شاء الله .  
وأما قصة  يونس   فقد مضى الكلام على بعضها آنفا ، وليس في قصة  يونس   نص على ذنب ، وإنما فيها : أبق ، وذهب مغاضبا ، وقد تكلمنا عليه .  
وقيل : إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فارا من نزول العذاب .  
وقيل : بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم      [ ص: 502 ] قال : والله لا ألقاهم بوجه كذاب أبدا .  
وقيل : بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .  
وقيل : ضعف عن حمل أعباء الرسالة . وقد تقدم الكلام أنه لم يكذبهم .  
وهذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .  
وقوله :  إذ أبق إلى الفلك المشحون      [ الصافات : 140 ] قال المفسرون تباعد .  
وأما قوله :  إني كنت من الظالمين      [ الأنبياء : 87 ] ، فالظلم ، وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه ، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه ، أو لضعفه عما حمله ، أو لدعائه بالعذاب على قومه . وقد دعا  نوح   بهلاك قومه فلم يؤاخذ .  
وقال  الواسطي  في معناه : نزه ربه عن الظلم ، وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا ، واستحقاقا . ومثل هذا قول  آدم   وحواء     :  ربنا ظلمنا أنفسنا      [ الأعراف : 23 ] ، إذ كانا السبب في وضعهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه ، وإخراجهما من الجنة ، وإنزالهما إلى الأرض .  
وأما قصة  داود      - عليه السلام - فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا ، وغيروا ، ونقله بعض المفسرين . ولم ينص الله على شيء من ذلك ، ولا ورد في حديث صحيح . والذي نص عليه قوله :  وظن داود أنما فتناه      [ ص : 24 ] - إلى قوله - :  وحسن مآب      [ ص : 25 ] .  
وقوله فيه :  أواب      . فمعنى فتناه : اختبرناه . وأواب : قال  قتادة     : مطيع . وهذا التفسير أولى .  
وقال   ابن عباس  ،   وابن مسعود     : ما زاد  داود   على أن قال للرجل : انزل لي عن امرأتك ، واكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، ونبهه عليه ، وأنكر عليه شغله بالدنيا  ، وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره .  
وقيل : خطبها على خطبته .  
وقيل : بل أحب بقلبه أن يستشهد .  
وحكى  السمرقندي  أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لأحد الخصمين :  لقد ظلمك      [ ص : 25 ] فظلمه بقول خصمه .  
وقيل : بل لما خشي على نفسه ، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك والدنيا .  
وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى  داود   من ذلك ذهب   أحمد بن نصر  ،  وأبو تمام  ، وغيرهما من المحققين .  
وقال  الداودي     : ليس في قصة  داود   ،  وأوريا  خبر يثبت ، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم .  
وقيل : إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نتاج غنم ، على ظاهر الآية .  
وأما قصة  يوسف   ، وإخوته فليس على  يوسف   فيها تعقب ، وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فيلزم الكلام على أفعالهم . وذكر  الأسباط   ، وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل الأنبياء .  
قال المفسرون : يريد من نبئ من أبناء الأسباط .  
وقد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا  بيوسف   ما فعلوه صغار الأسنان ولهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به ، ولهذا قالوا : أرسله معنا غدا نرتع ونلعب ، وإن ثبتت لهم      [ ص: 503 ] نبوة فبعد هذا والله أعلم .  
وأما قول الله - تعالى - فيه :  ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه      [ يوسف : 24 ] فعلى طريق كثير من الفقهاء والمحدثين أن  هم النفس   لا يؤاخذ به ، وليس سيئة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه : [ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ] ، فلا معصية في همه إذا .  
وأما على مذهب المحققين من الفقهاء ، والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة . وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها ، وخواطرها فهو المعفو عنه .  
هذا هو الحق ، فيكون إن شاء الله هم يوسف من هذا ، ويكون قوله :  وما أبرئ نفسي      [ يوسف : 53 ] الآية . .  
أي ما أبرئها من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع ، والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل ، وبرئ ، فكيف ، وقد حكى  أبو حاتم  عن  أبي عبيدة  أن  يوسف   لم يهم ، وأن الكلام فيه تقديم وتأخير ، أي : ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، وقد قال الله - تعالى - عن المرأة :  ولقد راودته عن نفسه فاستعصم      [ يوسف : 132 ] . وقال - تعالى - :  كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء      [ يوسف : 24 ] . وقال - تعالى - :  وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي      [ يوسف : 23 ] الآية .  
قيل في ربي : الله ، وقيل : الملك .  
وقيل : هم بها ، أي بزجرها ، ووعظها  
وقيل : هم بها ، أي غمها امتناعه عنها .  
وقيل هم بها : نظر إليها .  
وقيل : هم بضربها ، ودفعها .  
وقيل : هذا كله كان قبل نبوته .  
وقد ذكر بعضهم : ما زال النساء يملن إلى  يوسف   ميل شهوة حتى نبأه الله ، فألقى عليه هيبة النبوة ، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه .  
وأما خبر  موسى      - صلى الله عليه وسلم - مع قتيله الذي وكزه ، وقد نص الله - تعالى - أنه من عدوه ، وقيل : كان من  القبط   الذين على دين  فرعون     .  
ودليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة  موسى      .  
وقال  قتادة     : وكزه بالعصا ، ولم يتعمد قتله ، فعلى هذا لا معصية في ذلك .  
وقوله :  هذا من عمل الشيطان      [ القصص : 15 ] . وقوله :  ظلمت نفسي فاغفر لي      [ القصص : 16 ] قال   ابن جريج     : قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر .  
وقال  النقاش     : لم يقتله عن عمد مريدا للقتل ، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه ، قال : وقد قيل : إن هذا كان قبل النبوة ، وهو مقتضى التلاوة .  
وقوله - تعالى - في قصته :  وفتناك فتونا      [ طه : 40 ] ، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء . قيل في هذه القصة ، وما جرى      [ ص: 504 ] له مع  فرعون  ، وقيل : إلقاؤه في التابوت ، واليم ، وغير ذلك .  
وقيل : معناه أخلصناك إخلاصا ، قاله  ابن جبير  ،  ومجاهد  ، من قولهم : فتنت الفضة في النار إذا خلصتها . وأصل الفتنة معنى الاختبار ، وإظهار ما بطن ، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره .  
وكذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من  أن ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها     . . . الحديث . . ليس فيه ما يحكم به على  موسى   بالتعدي ، وفعل ما لا يجب له ، إذ هو ظاهر الأمر ، بين الوجه ، جائز الفعل ، لأن  موسى   دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، وقد تصور له في صورة آدمي ، ولا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصور له فيها الملك امتحانا من الله ، فلما جاءه بعد ، وأعلمه الله - تعالى - أنه رسوله إليه استسلم .  
وللمتقدمين ، والمتأخرين على هذا الحديث أجوبة هذا أسدها عندي ، وهو تأويل شيخنا الإمام   أبي عبد الله المازري     .  
وقد تأوله قديما  ابن عائشة  ، وغيره على صكه ، ولطمه بالحجة ، وفقء عين حجته ، وهو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف .  
وأما قصة  سليمان   وما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه ،  وقوله :  ولقد فتنا سليمان       [ ص : 34 ] ، فمعناه ابتلينا ، وابتلاؤه : ما حكي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله     .  
قال أصحاب المعاني : والشق هو الجسد الذي ألقي على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته ، ومحنته .  
وقيل : بل مات فألقي على كرسيه ميتا .  
وقيل : ذنبه حرصه على ذلك وتمنيه .  
وقيل : لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، وغلب عليه من التمني .  
وقيل : عقوبته أن سلب ملكه ، وذنبه أن أحب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم .  
وقيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه . ولا يصح ما نقله الأخباريون من تشبه الشيطان به ، وتسلطه على      [ ص: 505 ] ملكه ، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه ، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا وقد عصم الأنبياء من مثله .  
وإن سئل : لم لم يقل  سليمان   في القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة :  
أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسي أن يقولها ، وذلك لينفذ مراد الله .  
والثاني : أنه لم يسمع صاحبه ، وشغل عنه .  
وقوله :  وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي      [ ص : 35 ] . لم يفعل هذا  سليمان   غيرة على الدنيا ، ولا نفاسة بها ، ولكن مقصده في ذلك على ما ذكره المفسرون أن لا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك .  
وقيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة ، وخاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله ، ورسله بخواص منه .  
وقيل : ليكون ذلك دليلا ، وحجة على نبوته ، كإلانة الحديد لأبيه ، وإحياء الموتى  لعيسى   ، واختصاص  محمد      - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة ، ونحو هذا .  
وأما قصة  نوح      - عليه السلام - فظاهرة العذر ، وأنه أخذ فيها بالتأويل ، وظاهر اللفظ ، لقوله - تعالى - :  وأهلك      [ هود : 40 ] الآية . فطلب مقتضى هذا اللفظ وأراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله ، فبين الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره ، وعمله الذي هو غير صالح ، وقد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا ، ونهاه عن مخاطبته فيهم ، فأوخذ بهذا التأويل ، وعتب عليه ، وأشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه ، وكان  نوح   فيما حكاه  النقاش  لا يعلم بكفر ابنه .  
وقيل في الآية غير هذا ، وكل هذا لا يقضي على  نوح   بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله ، وإقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه ، ولا نهي عنه .  
وما روي في الصحيح من  أن نبيا قرصته نملة فحرق قرية النمل ، فأوحى الله إليه : أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح     . . . فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية ، بل فعل ما رآه مصلحة ، وصوابا بقتل من يؤذي جنسه ، ويمنع المنفعة مما أباح الله .  
ألا ترى أن هذا النبي كان نازلا تحت الشجرة ، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه ، وليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر ، وترك التشفي ، كما قال - تعالى - :  ولئن صبرتم لهو خير للصابرين   إذ ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاما لنفسه ، وقطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك ، ولم يأت في كل هذا أمر نهي عنه ، فيعصى به ، ولا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، ولا بالتوبة ، والاستغفار منه . والله أعلم .  
فإن قيل : فما معنى قوله - عليه السلام - :  ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا  أو كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .  
فالجواب عنه : كما تقدم من ذنوب الأنبياء التي وقعت عن غير قصد وعن سهو وغفلة .  
				
						
						
