[ ص: 512 ] [ ص: 513 ] [ ص: 514 ] [ ص: 515 ] الباب الثاني :
فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ، ويطرأ عليهم من العوارض البشرية
الفصل الأول : حالة الأنبياء بالنسبة للعوارض البشرية
قد قدمنا أنه - صلى الله عليه وسلم - ، وسائر الأنبياء ، والرسل من البشر ، وأن جسمه ، وظاهره خالص للبشر ، يجوز عليه من الآفات ، والتغييرات ، والآلام ، والأسقام ، وتجرع كأس الحمام ما يجوز على البشر ، وهذا كله ليس بنقيصة فيه ، لأن الشيء إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم ، وأكمل من نوعه ، وقد كتب الله - تعالى - على أهل هذه الدار : فيها يحيون ، وفيها يموتون ، ومنها يخرجون ، وخلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض - صلى الله عليه وسلم - ، واشتكى ، وأصابه الحر ، والقر ، وأدركه الجوع والعطش ، ولحقه الغضب والضجر ، وناله الإعياء والتعب ومسه الضعف والكبر وسقط فجحش شقه ، وشجه الكفار ، وكسروا رباعيته ، وسقي السم وسحر وتداوى واحتجم وتنشر وتعوذ ، ثم قضى نحبه فتوفي - صلى الله عليه وسلم - ، ولحق بالرفيق الأعلى ، وتخلص من دار الامتحان والبلوى ، وهذه سمات البشر التي لا محيص عنها ، وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه ، فقتلوا قتلا .
ورموا في النار ، ونشروا بالمناشير . ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات . ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس ، فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قمئة يوم أحد ، ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف ، فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور ، وأمسك عنه سيف غورث ، وحجر أبي جهل ، وفرس سراقة ، ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم ، من سم اليهودية .
وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ، ومعافى ، وذلك من تمام حكمته ، ليظهر شرفهم في هذه المقامات ، ويبين أمرهم ، ويتم كلمته فيهم ، وليحقق بامتحانهم بشريتهم ، ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم ، وليكون في محنهم تسلية لأممهم ، ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذي أحسن إليهم .
قال بعض المحققين : وهذه الطوارئ ، والتغيرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ، ومعاناة بني آدم لمشاكلة الجنس .
وأما بواطنهم فمنزهة غالبا عن ذلك معصومة منه ، متعلقة بالملأ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم ، وتلقيها الوحي منهم . قال : وقد [ ص: 516 ] قال - صلى الله عليه وسلم - : . وقال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي . إني لست كهيئتكم ، إني أبيت يطعمني ربي ، ويسقيني
وقال : لست أنسى ، ولكن أنسى ، ليستن بي .
فأخبر أن سره وباطنه ، وروحه بخلاف جسمه وظاهره ، وأن الآفات التي تحل ظاهره من ضعف وجوع وسهر ونوم ، لا يحل منها شيء باطنه ، بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن ، لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه ، وقلبه ، وهو - صلى الله عليه وسلم - في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروسا من الحدث في نومه لكون قلبه يقظان كما ذكرناه .
وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه ، وخارت قوته ، فبطلت بالكلية جملته ، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك ، وأنه بخلافهم ، لقوله : . لست كهيئتكم : إني أبيت يطعمني ربي ، ويسقيني
وكذلك أقول : إنه في هذه الأحوال كلها من وصب ومرض وسحر وغضب لم يجز على باطنه ما يحل به ، ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به ، كما يعتري غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه .