الفصل الخامس : أخباره الدنيوية - صلى الله عليه وسلم -
وأما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله ، وأحوال غيره ، وما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، وعلى أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضى أو غضب ، وأنه معصوم منه - صلى الله عليه وسلم - .
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدو حذره .
وكما روي من ممازحته ، ودعابته لبسط أمته ، وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته ، وتأكيدا في تحببهم ، ومسرة نفوسهم ، كقوله : لأحملنك على ابن الناقة . . وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض
وهذا كله صدق ، لأن كل جمل ابن ناقة ، وكل إنسان بعينه بياض ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : . إني لأمزح ، ولا أقول إلا حقا
هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر ، والنهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضا ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء ، وهو يبطن خلافه .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ، فكيف أن تكون له خائنة قلب ؟ . ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين
فإن قلت : فما معنى قوله - تعالى - في قصة زيد : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك [ الأحزاب : 37 ] .
فاعلم أكرمك الله ، ولا تسترب في تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا الظاهر ، وأن يأمر زيدا بإمساكها ، وهو يحب تطليقه إياها ، كما ذكر عن جماعة من المفسرين .
وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن علي بن حسين أن الله - تعالى - كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك عليك زوجك واتق الله [ الأحزاب : 37 ] . وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج ، وطلاق زيد لها .
[ ص: 522 ] وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن الزهري ، قال : نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش ، فذلك الذي أخفى في نفسه ، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله - تعالى - بعد هذا : وكان أمر الله مفعولا [ الأحزاب : 37 ] ، أي لا بد لك أن تتزوجها .
ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه - صلى الله عليه وسلم - مما كان أعلمه به - تعالى - .
وقوله - تعالى - في القصة : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله [ الأحزاب : 38 ] الآية .
فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر .
قال : ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل له مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله - تعالى - : الطبري سنة الله في الذين خلوا من قبل [ الأحزاب : 38 ] ، أي من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا ، ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ، ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ .
قال القشيري : وهذا إقدام عظيم من قائله ، وقلة معرفة بحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبفضله .
وكيف يقال : رآها فأعجبته ، وهي بنت عمه ، ولم يزل يراها منذ ولدت ، ولا كان النساء يحتجبن منه - صلى الله عليه وسلم - ، وهو زوجها لزيد ، وإنما جعل الله طلاق زيد لها ، وتزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها ، لإزالة حرمة التبني ، وإبطال سنته ، كما قال : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ الأحزاب : 40 ] . وقال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ الأحزاب : 37 ] . ونحوه . لابن فورك
وقال : فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو الليث السمرقندي لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج امرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال - تعالى - : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم [ الأحزاب : 37 ] .
وقد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعا للشهوة ، وردا للنفس عن هواها . وهذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة ، واستحسنها . ومثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه للحسن ، ونظرة الفجاءة معفو عنها ، ثم قمع نفسه عنها ، وأمر زيدا بإمساكها ، وإنما تنكر [ ص: 523 ] تلك الزيادات في القصة والتعويل ، والأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، وحكاه السمرقندي ، وهو قول ابن عطاء ، وصححه ، واستحسنه القاضي القشيري ، وعليه عول ، وقال : إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير ، قال : والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، وإظهار خلاف ما في نفسه ، وقد نزهه الله عن ذلك بقوله - تعالى - : أبو بكر بن فورك ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له [ الأحزاب : 38 ] ، ومن ظن ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخطأ .
قال : وليس معنى الخشية هنا الخوف ، وإنما معناه الاستحياء ، أي يستحيي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنه .
وأن خشيته - صلى الله عليه وسلم - من الناس كانت من إرجاف المنافقين ، واليهود ، وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان فعتبه الله على هذا ونزهه عن الالتفاف إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضى أزواجه في سورة التحريم بقوله : لم تحرم ما أحل الله لك [ التحريم : 1 ] الآية . . وكذلك قوله له هاهنا : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه [ الأحزاب : 37 ] .
وقد روي عن الحسن وعائشة : لو كتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا كتم هذه الآية لما فيها من عتبه ، وإبداء ما أخفاه .