القسم الرابع : في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه - عليه الصلاة والسلام -
مقدمة : قال القاضي أبو الفضل - وفقه الله - : قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما يتعين له من بر وتوقير وتعظيم وإكرام ، وبحسب هذا حرم الله - تعالى - أذاه في كتابه ، وأجمعت الأمة على قتل متنقصيه من المسلمين وسابه ، قال الله - تعالى - : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ الأحزاب : 57 ] .
وقال - تعالى - : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ التوبة : 61 ] .
وقال الله - تعالى - : [ ص: 537 ] وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ الأحزاب : 53 ] .
وقال - تعالى - : في تحريم التعريض به : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا [ البقرة : 104 ] الآية . .
وذلك أن اليهود كانوا يقولون : راعنا يا محمد ، أي أرعنا سمعك ، واسمع منا ، ويعرضون بالكلمة ، يريدون الرعونة ، فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم ، وقطع الذريعة بنهي المؤمنين عنها ، لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبه ، والاستهزاء به .
وقيل : بل لما فيها من مشاركة اللفظ ، لأنها عند اليهود بمعنى اسمع لا سمعت .
وقيل : بل لما فيها من قلة الأدب ، وعدم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيمه ، لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك ، فنهوا عن ذلك ، إذ مضمنه أنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم ، وهو - صلى الله عليه وسلم - ، واجب الرعاية بكل حال ، وهذا هو ، فقال : تسموا باسمي ، ولا تكنوا بكنيتي صيانة لنفسه ، وحماية عن أذاه ، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - استجاب لرجل نادى : يا - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن التكني بكنيته أبا القاسم ، فقال : لم أعنك ، إنما دعوت هذا ، فنهى حينئذ عن التكني بكنيته لئلا يتأذى بإجابة دعوة غيره لمن لم يدعه ، ويجد بذلك المنافقون والمستهزئون ذريعة إلى أذاه والإزراء به فينادونه ، فإذا التفت قالوا : إنما أردنا هذا لسواه تعنيتا له واستخفافا بحقه على عادة المجان والمستهزئين ، فحمى - صلى الله عليه وسلم - حمى أذاه بكل وجه ، فحمل محققو العلماء نهيه عن هذا على مدة حياته ، وأجازوه بعد وفاته لارتفاع العلة .
وللناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها ، وما ذكرناه هو مذهب الجمهور ، والصواب إن شاء الله . أن ذلك على طريق تعظيمه وتوقيره ، وعلى سبيل الندب والاستحباب ، لا على التحريم ، ولذلك لم ينه عن اسمه ، لأنه قد كان الله منع من ندائه به بقوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ النور : 63 ] ، وإنما كان المسلمون يدعونه برسول الله ، وبنبي الله ، وقد يدعونه بكنيته أبا القاسم في بعض الأحوال .
وقد روى أنس - رضي الله عنه - عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ما يدل على كراهة التسمي باسمه ، وتنزيهه عن ذلك ، إذا لم يوقر ، فقال : تسمون أولادكم محمدا ثم تلعنونهم .
وروي أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أهل الكوفة : لا يسمى أحد باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حكاه أبو جعفر الطبري .
وحكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه محمد ، ورجل يسبه ، ويقول له : [ ص: 538 ] فعل الله بك يا محمد ، وصنع . فقال عمر لابن أخيه محمد بن زيد بن الخطاب : لا أرى محمدا - صلى الله عليه وسلم - يسب بك ، والله لا تدعى محمدا ما دمت حيا ، وسماه عبد الرحمن وأراد أن يمنع لهذا أن يسمى أحد بأسماء الأنبياء إكراما لهم بذلك ، وغير أسماءهم وقال : لا تسموا بأسماء الأنبياء ، ثم أمسك .
والصواب جواز هذا كله بعده - صلى الله عليه وسلم - ، بدليل إطباق الصحابة على ذلك .
وقد سمى جماعة منهم ابنه محمدا ، وكناه بأبي القاسم .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في ذلك لعلي - رضي الله عنه - .
وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك اسم المهدي ، وكنيته .
وقد سمى به النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن طلحة ، ومحمد بن عمرو بن حزم ، ومحمد بن ثابت بن قيس ، وغير واحد ، وقال : ما ضر أحدكم أن يكون في بيته محمد ، ومحمدان وثلاثة .
وقد فصلت الكلام في هذا القسم على بابين كما قدمناه .