الفصل الثاني : في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه - صلى الله عليه وسلم -
فمن القرآن لعنه - تعالى - لمؤذيه في الدنيا والآخرة ، وقرانه - تعالى - أذاه بأذاه ، ولا خلاف في قتل من سب الله ، وأن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر ، وحكم الكافر القتل ، فقال : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ الأحزاب : 57 ] الآية . .
وقال في قاتل المؤمن مثل ذلك ، فمن لعنته في الدنيا القتل ، قال الله - تعالى - : ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا [ الأحزاب : 61 ] .
وقال في المحاربين ، وذكر عقوبتهم ذلك لهم خزي في الدنيا [ المائدة : 33 ] .
وقد يقع القتل بمعنى اللعن ، قال الله - تعالى - : قتل الخراصون [ الذاريات : 10 ] . و قاتلهم الله أنى يؤفكون [ المنافقون : 4 ] ، أي لعنهم الله ، ولأنه فرق بين أذاهما ، وأذى المؤمنين ، وفي أذى المؤمنين ما دون القتل ، من الضرب ، والنكال ، فكان حكم مؤذي الله ونبيه أشد من ذلك ، وهو القتل . وقال - تعالى - : [ ص: 545 ] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ النساء : 65 ] الآية .
فسلب اسم الإيمان عمن وجد في صدره حرجا من قضائه ، ولم يسلم له ، ومن تنقصه فقد ناقض هذا .
وقال الله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم [ الحجرات : 2 ] .
ولا يحبط العمل إلا الكفر ، والكافر يقتل .
وقال - تعالى - : وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله [ المجادلة : 8 ] ثم قال : حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير [ المجادلة : 8 ] .
وقال - تعالى - : ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن [ التوبة : 61 ] . ثم قال : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم [ التوبة : 61 ] .
وقال - تعالى - : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب [ التوبة : 65 ] - إلى قوله - : قد كفرتم بعد إيمانكم [ التوبة : 66 ] .
قال أهل التفسير : كفرتم بقولكم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الإجماع فقد ذكرناه .
وأما الآثار فحدثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون ، عن الشيخ إجازة ، قال : حدثنا أبي ذر الهروي ، أبو الحسن الدارقطني ، حدثنا وأبو عمر بن حيويه ، حدثنا محمد بن نوح عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر ، عن علي بن موسى ، عن أبيه ، عن جده ، عن ، عن أبيه ، عن محمد بن علي بن الحسين الحسين بن علي ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من سب نبيا فاقتلوه ، ومن سب أصحابي فاضربوه .
وفي الحديث الصحيح : كعب بن الأشرف . وقوله : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل لكعب بن الأشرف ! فإنه يؤذي الله ورسوله . ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة ، بخلاف غيره من المشركين ، وعلل قتله بأذاه له ، فدل أن قتله إياه لغير الإشراك ، بل للأذى . من
وكذلك قتل أبا رافع ، قال البراء : وكان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويعين عليه .
وكذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل ، وجاريتيه اللتين كانتا تغنيان بسبه - صلى الله عليه وسلم - .
وفي حديث آخر أن رجلا كان يسبه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال خالد : أنا . فبعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتله .
وكذلك أمر بقتل جماعة ممن كان يؤذيه من الكفار ، ويسبه ، كالنضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط .
وعهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح ، وبعده ، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه .
وقد روى البزار ، أن ابن عباس عقبة بن أبي معيط نادى : يا [ ص: 546 ] معاشر قريش ، ما لي أقتل من بينكم صبرا ! فقال له - صلى الله عليه وسلم - : بكفرك ، وافترائك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . عن
وذكر عبد الرزاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه رجل ، فقال : من يكفيني عدوي ؟ فقال الزبير : أنا ، فبارزه فقتله الزبير .
وروى أيضا أن امرأة كانت تسبه - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يكفيني عدوتي ؟ فخرج إليها فقتلها خالد بن الوليد .
وروي أن رجلا كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فبعث عليا ، والزبير إليه ليقتلاه .
وروى ابن قانع أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ، سمعت أبي يقول فيك قولا قبيحا فقتلته ! فلم يشق ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وبلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر - رضي الله عنه - أن امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطع يدها ، ونزع ثنيتها ، فبلغ أبا بكر - رضي الله عنه - ذلك ، فقال له : لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها ، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود . وعن : ابن عباس هجت امرأة من خطمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من لي بها ؟ فقال رجل من قومها : أنا يا رسول الله . فنهض فقتلها ، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : لا ينتطح فيها عنزان .
وعن ابن عباس . أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيزجرها فلا تنزجر ، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتشتمه ، فقتلها ، وأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فأهدر دمها
وفي حديث : كنت يوما جالسا عند أبي برزة الأسلمي ، فغضب على رجل من المسلمين ، وحكى أبي بكر الصديق القاضي إسماعيل ، وغير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر .
ورواه : أتيت النسائي أبا بكر ، وقد أغلظ لرجل فرد عليه ، قال : فقلت : يا خليفة رسول الله ، دعني أضرب عنقه . فقال : اجلس ، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال القاضي أبو محمد بن نصر : ولم يخالف عليه أحد ، فاستدل الأئمة بهذا الحديث على
ومن [ ص: 547 ] ذلك كتاب قتل من أغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل ما أغضبه أو أذاه أو سبه . إلى عامله عمر بن عبد العزيز بالكوفة ، وقد استشاره في قتل رجل سب عمر - رضي الله عنه - ، فكتب إليه عمر : إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلا سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فمن سبه فقد حل دمه .
وسأل الرشيد مالكا في رجل شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده ، فغضب مالك ، وقال : يا أمير المؤمنين ، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ! من شتم الأنبياء قتل ، ومن شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد .
قال القاضي أبو الفضل : كذا وقع في هذه الحكاية ، رواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك ، ومؤلفي أخباره ، وغيرهم ، ولا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر ! ، وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ، ولعلهم ممن لم يشهر بعلم ، أو من لا يوثق بفتواه ، أو يميل به هواه ، أو يكون ما قاله يحمل على غير السب ، فيكون الخلاف : هل هو سب أو غير سب ؟ أو يكون رجع ، وتاب من سبه ، فلم يقله لمالك على أصله ، وإلا فالإجماع على قتل من سبه كما قدمناه .
ويدل على قتله من جهة النظر ، والاعتبار أن من سبه أو تنقصه - صلى الله عليه وسلم - فقد ظهرت علامة مرض قلبه ، وبرهان سر طويته وكفره ، ولهذا ما حكم له كثير من العلماء بالردة ، وهي رواية الشاميين عن مالك ، ، وقول والأوزاعي ، الثوري وأبي حنيفة ، والكوفيين .
والقول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حدا ، وإن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متماديا على قوله ، غير منكر له ، ولا مقلع عنه ، فهذا كافر ، وقوله : إما صريح كفر كالتكذيب ، ونحوه ، أو من كلمات الاستهزاء والذم ، فاعترافه بها ، وترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك ، وهو كفر أيضا ، فهذا كافر بلا خلاف ، قال الله - تعالى - في مثله : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [ التوبة : 74 ] .
قال أهل التفسير : هي قولهم : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير .
وقيل : بل قول بعضهم : ما مثلنا ومثل محمد إلا قول القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] .
وقد قيل : إن قائل مثل هذا إن كان مستترا به أن حكمه حكم الزنديق يقتل ، ولأنه قد غير دينه ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ولأن لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحرمة مزية على أمته ، وساب الحر من أمته يحد ، فكانت العقوبة لمن سبه - صلى الله عليه وسلم - القتل ، لعظيم قدره ، وشفوف منزلته على غيره . من غير دينه فاضربوا عنقه