الفصل الخامس والعشرون : الأخلاق الحميدة
قد أتيناك أكرمك الله من ذكر الأخلاق الحميدة ، والفضائل المجيدة ، وخصال الكمال العديدة ، وأريناك صحتها له - صلى الله عليه وسلم - ، وجلبنا من الآثار ما فيه مقنع ، والأمر أوسع ، فمجال هذا الباب في حقه - صلى الله عليه وسلم - ممتد ، تنقطع دون نفاده الأدلاء ، وبحر علم خصائصه زاخر لا تكدره الدلاء ، ولكن أتينا [ ص: 208 ] فيه بالمعروف مما أكثر في الصحيح ، والمشهور من المصنفات ، واقتصرنا في ذلك بقل من كل وغيض من فيض ، ورأينا أن نختم هذه الفصول بذكر حديث الحسن ، عن أبي هالة ، لجمعه من شمائله ، وأوصافه كثيرا ، وإدماجه جملة كافية من سيره ، وفضائله ، ونصله بتنبيه لطيف على غريبه ، ومشكله .
[ حدثنا القاضي أبو علي الحسين بن محمد الحافظ - رحمه الله - بقراءتي عليه سنة ثمان وخمسمائة ، قال : حدثنا الإمام أبو القاسم عبد الله بن طاهر التميمي قراءة عليه ، أخبركم الفقيه الأديب أبو بكر محمد بن عبد الله بن الحسن النيسابوري ، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحسن المحمدي ، والقاضي أبو علي الحسن بن علي بن جعفر الوحشي ، قالوا : حدثنا ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن الحسن الخزاعي ، أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، قال : حدثنا أبو عيسى محمد بن عيسى سورة الحافظ ، حدثنا سفيان بن وكيع جميع بن عمر بن عبد الرحمن العجلي إملاء من كتابه ، قال : حدثني رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج - رضي الله عنها - ، يكنى خديجة أم المؤمنين أبا عبد الله ، عن ابن لأبي هالة ، عن - رضي الله عنه - ، قال : سألت خالي الحسن بن علي بن أبي طالب هند بن أبي هالة . قال القاضي أبو علي - رحمه الله - : وقرأت على الشيخ ، قال : وأجاز لنا الشيخ الأجل أبي طاهر أحمد بن الحسن بن أحمد بن خذادادا الكرجي الباقلاني ، قالا : حدثنا أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون قراءة عليه فأقر به ، قال : أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران الفارسي أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المعروف بابن أخي طاهر العلوي قال : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، قال : حدثني علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أخيه موسى بن جعفر ، عن ، عن أبيه جعفر بن محمد محمد بن علي ، عن علي بن الحسين ، قال ] : قال الحسن بن علي ، واللفظ لهذا السند : سألت خالي هند بن أبي هالة عن حلية [ ص: 209 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان وصافا ، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئا أتعلق به ، قال :
، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخما مفخما ، عظيم الهامة ، رجل الشعر ، إن انفرقت عقيقته فرق ، وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه ، إذا هو وفره ، أطول من المربوع ، وأقصر من المشذب ، سوابغ من غير قرن ، بينهما عرق يدره الغضب ، أقنى العرنين ، له نور يعلوه ، ويحسبه من لم يتأمله أشم ، أزهر اللون ، واسع الجبين ، أزج الحواجب ، مفلج الأسنان دقيق المسربة ، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة ، معتدل الخلق ، بادنا ، متماسكا ، سواء البطن والصدر ، مشيح الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس ، أنور المتجرد ، موصول ما بين اللبة ، والسرة بشعر يجري كالخط ، عاري الثديين ما سوى ذلك ، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر ، طويل الزندين ، رحب الراحة ، شثن الكفين ، والقدمين ، سائل الأطراف أو قال : سائن الأطراف وسائر الأطراف ، سبط العصب ، خمصان الأخمصين ، مسيح القدمين ، ينبو عنهما الماء ، إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية ، إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وإذا التفت التفت جميعا ، خافض الطرف ، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، جل نظره الملاحظة ، يسوق أصحابه ، ويبدأ من لقيه بالسلام كث اللحية ، أدعج ، سهل الخدين ، ضليع الفم أشنب . قلت : صف لي منطقه . قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان دائم الفكرة ، ليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ، ويختمه بأشداقه ، ويتكلم بجوامع الكلم فضلا ، لا فضول فيه ، ولا تقصير ، دمثا ليس بالجافي ولا المهين ، يعظم النعمة ، وإن دقت ، لا يذم شيئا ، لم يكن يذم ذواقا ، ولا يمدحه ، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له ، ولا يغضب لنفسه ، ولا ينتصر لها ، إذا أشار أشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا تحدث اتصل بها ، فضرب بإبهامه اليمنى راحته اليسرى ، وإذا غضب أعرض ، وأشاح ، وإذا فرح غض طرفه ، جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام .
قال الحسن : فكتمتها الحسين : فكتمتها عن الحسين بن علي زمانا ، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه ، فسأل أباه عن مدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومخرجه ، ومجلسه ، وشكله ، فلم يدع منه شيئا .
قال الحسين : سألت أبي عن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال :
كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءا لله وجزءا لأهله ، وجزءا لنفسه ، ثم جزأ جزأه بينه ، وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة ، ولا يدخر عنهم شيئا ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه [ ص: 210 ] وقسمته على قدر فضلهم في الدين ، منهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ، ويقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة . لا يذكر عنده إلا ذلك ، ولا يقبل من أحد غيره .
وقال في حديث : سفيان بن وكيع يدخلون روادا ، ولا يتفرقون إلا عن خواق ، ويخرجون أدلة يعني فقهاء .
قلت : فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه ؟
قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ، ويؤلفهم ، ولا يفرقهم ، يكرم كريم كل قوم ، ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم ، من غير أن يطوي عن أحد بشره ، وخلقه ، ويتفقد أصحابه ، ويسأل الناس ، ويحسن الحسن ، ويصوبه ، ويقبح القبيح ، ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ، ولا يجاوزه إلى غيره ، الذين يلونه من الناس خيارهم وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ، وموازرة .
فسألته عن مجلسه : عما كان يصنع فيه .
فقال : ، ولا يوطن الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه فيه . من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه . كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس ، ولا يقوم إلا على ذكر
من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول . قد وسع الناس بسطه ، وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق سواء ، متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى . وفي الرواية الأخرى : صاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم ، وحياء ، وصبر ، وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تثنى فلتاته ، وهذه الكلمة ، من غير الروايتين .
يتعاطون فيه بالتقوى متواضعين ، يوقرون فيه الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويرفدون ذا الحاجة ، ويرحمون الغريب .
فسألته عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه . فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائم البشر ، سهل الخلق ، لين الجانب ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ويؤيس منه ، قد ترك نفسه من ثلاث : الرياء ، والإكثار ، وما لا يعنيه ، وترك الناس من ثلاث : كان لا يذم أحدا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير ، إذا سكت تكلموا ، لا يتنازعون عنده الحديث . من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم حديث أولهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في [ ص: 211 ] المنطق ، ويقول : إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه ولا يطلب الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام .
هنا انتهى حديث . سفيان بن وكيع
وزاد الآخر : - ؟ كيف كان سكوته - صلى الله عليه وسلم
قال : كان سكوته على أربع : الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكر .
فأما تقديره ففي تسوية النظر ، والاستماع بين الناس .
وأما تفكره ففيما يبقى ، ويفنى .
وجمع له الحلم - صلى الله عليه وسلم - في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء يستفزه ، وجمع له في الحذر أربع : أخذه بالحسن ليقتدى به ، وتركه القبيح لينتهى عنه ، واجتهاد الرأي بما أصلح أمته ، والقيام لهم بما جمع أمر الدنيا والآخرة .
انتهى الوصف بحمد الله ، وعونه .