الفصل الخامس : في
اختلف الناس في تفسير محبة الله ، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكثرت عباراتهم في ذلك ، وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ، ولكنها اختلاف أحوال : معنى المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وحقيقتها
فقال سفيان : المحبة اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كأنه التفت إلى قوله - تعالى - : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني [ آل عمران : 31 ] الآية .
وقال بعضهم : محبة الرسول اعتقاد نصرته ، والذب عن سنته ، والانقياد لها ، وهيبة مخالفته .
وقال بعضهم : المحبة : دوام الذكر للمحبوب .
وقال آخر : إيثار المحبوب .
وقال بعضهم : المحبة الشوق إلى المحبوب .
وقال بعضهم : المحبة مواطأة القلب لمراد الرب ، يحب ما أحب ، ويكره ما كره .
وقال آخر : المحبة ميل القلب إلى موافق له .
وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها .
وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان وتكون موافقته له إما لاستلذاذه بإدراكه ، كحب الصور الجميلة ، والأصوات الحسنة ، والأطعمة ، والأشربة اللذيذة ، وأشباهها مما كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له ، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله ، وقلبه معاني باطنة شريفة ، كمحبة الصالحين ، والعلماء ، وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة ، والأفعال الحسنة ، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم ، والتشيع من أمة في آخرين ما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم ، واخترام النفوس ، أو يكون حبه إياه لموافقته له من جهة إحسانه له ، وإنعامه عليه ، فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها .
فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 391 ] فعلمت أنه - صلى الله عليه وسلم - جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة :
أما جمال الصورة ، والظاهر ، وكمال الأخلاق ، والباطن ، فقد قررنا منها قبل فيما مر في الكتاب ما لا يحتاج إلى زيادة .
وأما إحسانه وإنعامه على أمته فكذلك قد مر منه في أوصاف الله - تعالى - له من رأفته بهم ، ورحمته لهم ، وهدايته إياهم ، وشفقته عليهم ، واستنقاذهم به من النار ، وأنه بالمؤمنين رءوف رحيم ، ورحمة للعالمين ، ومبشرا ، ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه ، ويتلو عليهم آياته ، ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب ، والحكمة ، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
فأي إحسان أجل قدرا ، وأعظم خطرا من إحسانه إلى جميع المؤمنين ؟ وأي إفضال أعم منفعة ، وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين ، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية ، ومنقذهم من العماية ، وداعيهم إلى الفلاح ، والكرامة ، ووسيلتهم إلى ربهم ، وشفيعهم ، والمتكلم عنهم ، والشاهد لهم ، والموجب لهم البقاء الدائم ، والنعيم السرمد .
فقد استبان لك أنه - صلى الله عليه وسلم - مستوجب للمحبة الحقيقية شرعا بما قدمناه من صحيح الآثار ، وعادة ، وجبلة بما ذكرناه آنفا ، لإفاضته الإحسان ، وعمومه الإجمال ، فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفا ، أو استنقذه من هلكة ، أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع ، فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ، ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب .
وإذا كان يحب بالطبع ملك لحسن سيرته ، أو حاكم لما يؤثر من قوام طريقته ، أو قاص بعيد الدار لما يشاد من علمه ، أو كرم شيمته فمن جمع هذه الخصال على غاية مراتب الكمال أحق بالحب ، وأولى بالميل .
وقد قال علي - رضي الله عنه - في صفته - صلى الله عليه وسلم - : من رآه بديهة هابه ، ومن خالطه معرفة أحبه .
وذكرنا عن بعض الصحابة أنه كان لا يصرف بصره عنه محبة فيه .