وأما صاحب المنازل فقال : . الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم
الموهوم عنده ما سوى الله تعالى ، والترقي عنه الصعود من شهود نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى ، وهذه إشارة إلى الفناء . ومراده : الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله . والكمال في ذلك : الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته .
والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده ، بحيث لا يرى لغيره وجودا البتة ، ويرى وجود كل موجود هو وجوده ، فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده .
قال : وهو على ثلاث درجات : اعتصام العامة بالخبر ، استسلاما وإذعانا ، بتصديق الوعد والوعيد ، وتعظيم الأمر والنهي ، وتأسيس المعاملة على اليقين والإنصاف .
يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله ، استسلاما من غير منازعة ، بل إيمانا واستسلاما ، وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما ، والتصديق بالوعد والوعيد ، وأسسوا معاملتهم على اليقين ، لا على الشك والتردد ، وسلوك طريقة الاحتياط ، كما قال القائل :
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه .
فأما ، وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له من العظمة ، والكبرياء ، والجبروت . الإنصاف في معاملة الله فأن يعطي العبودية حقها
على نعمه وينساه ، ولا يستعين بها على معاصيه ، ولا يحمد على رزقه غيره ، ولا يعبد سواه ، كما في الأثر الإلهي : ومن إنصافه لربه أن لا يشكر سواه إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، وفي أثر آخر : ابن آدم ما أنصفتني ، خيري إليك نازل ، وشرك إلي صاعد ، أتحبب إليك بالنعم ، وأنا عنك غني ، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ، ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح ، وفي أثر آخر : يا ابن آدم ، ما من يوم جديد ، إلا يأتيك من عندي رزق جديد ، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح ، تأكل رزقي وتعصيني ، وتدعوني فأستجيب لك ، وتسألني فأعطيك ، وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك ، وما هذا من الإنصاف .
وأما . الإنصاف في حق العبيد فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به
ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة . هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ، ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه ، فلا تأخذه فيه لومة لائم ، ولا يرى مقاما أجل منه .